إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / موضوعات دينية / عذاب القرى في القرآن الكريم وهلاكها




نتائج الزلازل التدميرية
نتائج السيول التدميرية
مرض الإيدز
تأثير الفيضانات المدمرة
تسونامي مدمر
عاصفة الهيريكين المدارية
عاصفة التورنيدو الرعدية

الطير الأبابيل
الفرق بين آيتي فانظروا – ثم أنظروا
اسلوب إهلاك أصحاب الفيل
حجارة من سجيل




مقدمة

المبحث الحادي عشر

 تدمير القرى الظالمة ـ ساعة الصفر (المرحلة الرابعة)

ساعة الصفر هو مصطلح عسكري شائع يُقصد به توقيت بدء المعركة، والمقصود به هنا توقيت إهلاك أهل القرى الظالمة وتدميرها، حيث يبدأ هذا التوقيت ساعة تنفيذ الملائكة العقاب (ساعة الصفر)، والملائكة يعلمون من الله I كل تفاصيل ساعة الصفر قبل التنفيذ، يعلمون توقيتها، وأساليب الإهلاك ووسائله وأدواته التي ستستخدم، وكيفية نجاة المؤمنين منها. ويمكن توضيح الحقائق السابقة عن (ساعة الصفر) من خلال قصص إهلاك قوم عاد، وفرعون وجنوده، وقوم لوط على سبيل المثال لا الحصر.

أولاً: كيفية إهلاك قوم عاد (ساعة الصفر)

دارت عجلة الزمن بعد الطوفان، ولم يكن على الأرض من البشر غير المؤمنين، لم يكن هناك كافر واحد على الأرض، ومرت سنوات وسنوات، ومات الآباء والأبناء وجاء أبناء الأبناء ومن بعدهم، ونسى الناس ما وصى به نوح u وعادت عبادة الأصنام كما كانت مرة أخرى، وأراد أحفاد قوم نوح تخليد ذكرى أبائهم وأجدادهم الذين نجوا من الطوفان، فصنعوا لهم تماثيل لتخليد ذكراهم، وجيلاً بعد جيل تطور الأمر وانقلب المفهوم من تخليد للذكرى، إلى عبادتهم آلهة، وعادت الأرض تشكو من الظلام مرة أخرى.

أرسل الله هوداً u إلى قومه عاد، وهي قبيلة بالأحقاف (مكان في منطقة صحراء ممتلئة بجبال الرمال المائلة تطل على البحر)، وكانت مساكنهم خياماً كبيرة ذات أعمدة شديدة الضخامة والارتفاع، وكان قوم عاد هم أعظم أهل زمانهم في الطول وقوة الأجسام، وأصحاب بأس شديد، كانوا عمالقة وأقوياء حتى كانوا يتباهون بتلك القوة ويقولون عن أنفسهم: )مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً( (فصلت: من الآية 15)، وكان الأجدر بهم أن يتذكروا ويتفكروا في أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة، غير أن كبرياءهم وغرورهم جعلهم لا يبصرون الحقيقة، فبرغم ضخامة أجسامهم إلا أن عقولهم كانت ضئيلة ومظلمة، فكيف يعبدون أصناماً ويدافعون عنها ويحاربون من أجلها، إن لم تكن عقولهم فاسدة ومظلمة.

قال لهم هود u: )يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ (50) يَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلَا تَعْقِلُونَ (51) وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا( (هود: من الآية 50 - 52)، هي نفس دعوة االرسل جميعاً )اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ(، لاتتغير ولا تتبدل كلمة واحدة هي الحق كله.

قال لهم أنه ما يسألهم على ما يقول لهم من أجر، فإنما أجره على الله، )يَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلَا تَعْقِلُونَ(، وحدثهم عن نعم الله عليهم وذكرهم بها، كيف أن الله أعطاهم بسطة في الجسم وشدة في البأس؟!، وكيف أن الله أسكنهم الأرض التي تمنح الخير والزرع؟!، وكيف أن الله قد أرسل عليهم المطر الذي يُحيي به الأرض؟!، لكنهم كذبوه ولم يستجيبوا له ولم يؤمنوا بما يقول.

قال الملأ الذين كفروا من قومه وكذبوا بلقاء الآخرة: )مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ (33) وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ (34) أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ (35) هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ (36) إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (37) إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ( (المؤمنون: الآيات 33 - 38)، والملأ هم الرؤساء وأغنياء القوم ومترفوهم، وهم الذين لهم مصلحة في استمرار الأوضاع الفاسدة، فمن مواقع الثراء والترف والغنى يولد الحرص على استمرار المصالح الخاصة، ويتولد الكبرياء.

استمر الصراع بين هود u وقومه، وكلما استمر الصراع ومرت الأيام زاد قوم هود استكباراً وعناداً وتكذيباً، وبدأوا يتهمون هودا u بالجنون، قالوا: )يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (53) إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ( (هود: من الآية 53)، لقد تصوروا بعقولهم الفاسدة أن هوداً u قد مسته آلهتهم بسوء، وهي آلهة صنعوها من الحجارة بأيديهم فأين ذهبت تلك العقول؟.

لم يبق لهود u بعد كل هذا التكذيب والتحدي، سوى التوجه إلى الله وإنذارهم الإنذار الأخير، الذي ينطوي على وعيد وتهديد لأولئك المكذبين، قال: )إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (54) مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ (55) إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (56) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّونَهُ شَيْئًا إِنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ( (هود: من الآية 54، والآيات 55 – 57)، وقوله تعالى )فَإِنْ تَوَلَّوْا( في موضع جزم فلذلك حذفت منه النون, والأصل (تتولوا), فحذفت التاء تخفيفاً لاجتماع تاءين.

هكذا الأنبياء والمرسلون المنذرون، رجل واحد مثل هود u يواجه قومه الغلاظ الشداد بمفرده، يقف أمام الجبارين أصحاب العقيدة الفاسدة، فيسفههم ويتبرأ منهم ويتحداهم!!، يتحداهم أن يكيدوا له دون انتظار أو إمهال، فهو على استعداد لتلقي كيدهم ومحاربة فسادهم، فالله معه يؤيده وينصره عليهم، بهذه الثقة وبهذا الإيمان الراسخ يخاطب هود u قومه، مستعينا بالله وعلى يقين بنصره. يفعل ذلك رغم وحدته وضعفه فهو يقف مع الحق، ويبلغ عن الله، وهو على يقين من نصره، وأدرك هود u أن عقاب الله واقع على من كفر من قومه لا محالة.

انتظر هود u وانتظر قومه وعد الله بالعقاب، وبدأ الجفاف يعم الأرض وتوقفت السماء عن المطر، واشتعل لهيب الشمس المحرقة، وهرع قوم هود يصرخون من هذا الجفاف، وقال لهم هود u إن الله غاضب عليكم، ولو آمنتم ورجعتم عما أنتم عليه فسوف يرضى عنكم، ويرسل عليكم المطر ويزيدكم قوة إلى قوتكم، إلا أنهم سخروا منه وازدادوا عناداً وكفراً.

وازداد الجفاف وجفت الأشجار الخضراء ومات الزرع، وفي يوم جاء سحاب عظيم يملأ السماء، وفرح قومه بهذا السحاب وخرجوا من بيوتهم مستبشرين، قال تعالى: )فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (24) تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ( (الأحقاف: الآيتان 24 و25)، بعد لحظات تغير الجو فجأة من الجفاف الشديد إلى البرد الشديد، وبدأ هبوب الرياح، وارتعش كل شيء (الأشجار ــ النباتات ــ الرجال ــ النساء ــ الخيام) ارتعشت الأجسام (الجلد واللحم والعظام وحتى النخاع).

استمرت الرياح ليلة بعد ليلة ويوما بعد يوم، كانت تزداد برودة كل ساعة، وبدأ قوم هود يفرون وهم يدركون أن (ساعة الصفر) قد بدأت، وأن موعد هلاكهم قد اقترب، هرعوا إلى خيامهم واختبأوا داخلها، واشتد هبوب الرياح وازداد، كانت الرياح تمزق الجلد وتنفذ من فتحات الجسم وتدمره، لا تكاد تمس شيئاً إلا قتلته ودمرته وامتصت ما في جسده وجعلته كالرميم. قال تعالى: )وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ (41) مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ( (الذاريات: الآيتان 41 و42)، واستمرت الريح سبع ليالٍ وثمانية أيام، لم تر الدنيا مثلها قط قال تعالى: )وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ (6) سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ (7) فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ( (الحاقة: الآيات 6 -8).

هكذا كانت (ساعة الصفر)، لحظة تنفيذ عقاب الله على قوم هود، لم يبق من قوم هود إلا ما يبقى من نخل ميت، غلاف خارجي هش، كأعجاز النخل الخاوية لا تكاد تضع يدك عليها حتى تتطاير ذراتها في الهواء. ونجا هود u ومن آمن معه. وهلك الجبابرة في سبع ليالٍ وثمانية أيام.

يلخص القرآن الكريم قصة إهلاك قوم عاد، وكيف كانت ساعة عقابهم (ساعة الصفر)، وكيف حدث إهلاكهم، وكيف كانت عاقبتهم في قوله تعالى: )كَذَّبَتْ عَادٌ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (18) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ (19) تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ (20) فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ( (القمر: الآيات 18 – 21)، ريح صرصر أي شديدة الصوت، )فِي يَوْمِ نَحْسٍ( أى يوم شؤم، )مُسْتَمِرٍّ( أى دائم. وفي قوله تعالى: )إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا(، يقول I: إنا بعثنا على قوم عاد إذ تمادوا في طغيانهم وكفرهم بالله ريحاً صرصراً, وهي الشديدة العصوف باردة، لصوتها صرير, وهي مأخوذة من شدة صوت هبوبه.

يقول I في قوله تعالى: )كَذَّبَتْ عَادٌ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ(، أي كذبت عاد نبيها هوداً u فيما أتاهم به من عند الله، مثلما كذبت قوم نوح نوحاً u, ومثلما كذبتم به نبيكم محمداً e معشر قريش, فاُنظروا كيف كان عذابي إياهم, وكيف كان عقابي لهم على كفرهم وتكذيبهم رسولهم هودا u، لقد كانوا على مثل ما كانوا عليه من التمادي في الغي والضلالة.

وفي قوله تعالى: )إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ(، يقول I إنا سلطنا عليهم ريحاً باردة مدوية في يوم شؤم دائم، تقلع الناس من أماكنهم، وترمي بهم على الأرض صرعى، كأنهم أصول نخل منقلع من مغارسه. وفي قوله تعالى: )تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ(، أي تقلعهم من حفر الأرض المندسين فيها، وتصرعهم على رءوسهم، فتدق رقابهم فتبين الرأس عن الجسد، كأنهم أصول نخل منقعر منقطع ساقط على الأرض، وقد شُبهوا بالنخل لطولهم.

وقيل في موضع الصفة للريح وهي تقلعهم من مواضعهم، أنها قلعتهم من تحت أقدامهم اقتلاع النخلة من أصلها، وقال مجاهد: كانت تقلعهم من الأرض فترمي بهم على رءوسهم فتندق أعناقهم، وتبين رءوسهم عن أجسادهم، وقيل تنزع الناس من البيوت. وقال محمد بن كعب عن أبيه، قال النبي e: ]انتزعت الريح الناس من قبورهم[، وقيل حفرواً حفراً ودخلوها، فكانت الريح تنزعهم منها وتكسرهم، وتبقى تلك الحفر كأنها أصول نخل قد هلك ما كان فيها، فتبقى مواضعها منقعرة. قال ابن إسحاق: لما هاجت الريح، قام سبعة نفر من عاد سمى لنا منهم ستة من أشد عاد وأجسمها منهم (عمرو بن الحلي، والحارث بن شداد، والهلقام وابنا تقن، وخلجان بن سعد)، فأولجوا العيال في شعب بين جبلين ثم اصطفوا على باب الشعب ليردوا الريح عمن في الشعب من العيال، فجعلت الريح تجعفهم رجلاً رجلاً، فقالت امرأة من عاد: (ذهب الدهر بعمرو بــن حلي والهنيات، ثم بالحارث والهلــقام طلاع الثنيات، والذي سد مهب الريح أيام البليات).

ثانياً: كيفية إهلاك فرعون وجنوده (ساعة الصفر)

هذا مثال تفصيلي آخر يضربه الله لنا في القرآن الكريم، يبين فيه كيفية إهلاك القرى الظالمة ممثلة في إهلاك فرعون وجنوده، وسنوضح كيف نجى الله موسى u وبني إسرائيل من فرعون وجنوده قبل إغراقهم، أى قبل (ساعة الصفر).

كيف أهلك الله (فرعون وجنوده) الأمر يختلف هنا!!، ففي الأمثلة السابقة أهلك الله الظالمين وهم في قراهم التي يعيشون فيها، أما في هذا المثال فإن الله استدرج الظالمين خارج قراهم، ليهلكهم بعيداً عن ديارهم، وليورث ديارهم قوماً غيرهم.

لقد وضع الله I حداً لفرعون وجنوده الذين طغوا في البلاد، فأكثروا فيها الفساد، فصب عليهم الله سوط عذابه بعد أن أملى الله لهم، سنة الله في إعطاء فرص للظالمين للرجوع والتوبة قبل عقابهم، يملى لهم!! لكنه I في الوقت نفسه يستدرجهم من حيث لا يعلمون.

صدر الأمر الإلهي لموسىu  ومن معه من المؤمنين بالخروج من مصر، ثم استدرج الله فرعون وجنوده لمطاردة موسى u ومن آمن معه من بنى إسرائيل خارج ديارهم؛ ولما اصبحوا في وضع بالغ الخطورة وبعد أن أصبح البحر أمامهم وفرعون وجنوده وراءهم، وضاق الخناق عليهم، وبعد أن قال أصحاب موسى u إنا لمدركون، يصور القرآن الكريم تلك اللحظات العصيبة، في قوله تعالى: )فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ( (الشعراء: الآية 61).

لم يفكر موسى u كثيراً، فإن الله ناصره لا محالة كما وعد، وموسى u هو كليم الله، وهو على يقين من نصره له ونجاته رغم هذا الموقف العصيب الذى يواجهه، فأوحى الله إليه أن يضرب بعصاه البحر، قال تعالى: )وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لَا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى( (طه: الآية 77).

فلما ضرب موسى u البحر بعصاه انفلق فكان كل فرق كالطود العظيم، انشق البحر إلى نصفين بينهما طريق من اليابسة، يمينه موج ويساره موج، ثم تقدم موسى u ومن معه على هذا الطريق اليابس في عرض البحر تحيطهم الأمواج العاتية، وفى نفس الوقت يلاحقهم فرعون وجنوده، وحين انتهي موسى u ومن معه من عبور البحر كان فرعون وجنوده قد وصلوا إلى وسطه، وأصدر الله تعالى أمره إلى جبريل u بأنه قد حان وقت الهالكين، أي (حانت ساعة الصفر)، فحرك جبريل u الموج لينطبق عليهم، وهاهو ذا فرعون وجنوده يغرقون.

فرعون الذى قال لقومه من قبل (أنا ربكم الأعلى) يصارع الموت ويستغيث، ويبتلع المياه في جوفه ويختنق، حتى إذا أدركه الغرق قال: )آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ( (يونس من الآية 90)، هذا الإيمان الزائف الذى يأتي عند الحاجة والضرورة، يقول I لفرعون عند غرقه: )آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (91) فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ (92)( (يونس: الآيتان 91 و92).

لم يقبل الله I منه ذلك الإيمان المزيف، فلو لم ير فرعون ذلك الموت، لظل مستخفاً بقومه، ولظل ينادي فيهم أنا ربكم الأعلى، وقد نجاه الله ببدنه ليكون لمن بعده آية لكل ظالم متكبر. فهو المصير المحتوم لهم في نهاية الأمر، وفي الوقت نفسه كان جنود فرعون يصارعون الغرق، يحاولون النجاة بلا أدنى أمل، وهم يتذكرون قول فرعون لهم في تلك اللحظات التى يفارقون فيها الحياة، ويتعجبون قبل موتهم من أمرين:

1. كيف يغرق ذلك الإله (فرعون) أمامهم؟!. فهل الإله يغرق كالبشر؟.

2. كيف استخفهم فرعون إلى هذا الحد، الذى أوصلهم ليكونوا بعد لحظات في قاع ذلك البحر؟، فهم لم يظنوا ذلك أبدا ولم يتصوروا أن يهلكوا وهو على رأسهم، يقودهم في الدنيا إلى الهلاك وفى الأخرة إلى النار، بعد أن كانوا يتباهون بأنهم جنوده، وأنهم مقربون إليه.

لقد نصر الله المؤمنين كما وعد، وأهلك الكافرين الظالمين فلم يستثن منهم أحد، أهلكهم خارج قراهم التي كانوا يعيشون فيها بمصر، أخرجهم من جنات وعيون، وكنوز ومقام كريم، قال تعالى: )فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (57) وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (58) كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ( (الشعراء: الآيات 57 – 59).

هكذا تمت سنة الله في إهلاك القرى الظالمة، أخرج منها المؤمنين ونجاهم من فرعون الطاغية، ثم أهلك فرعون وجنوده بالغرق، ذلك الأسلوب الذي حدده الله لإهلاكهم.

ثالثاً: كيفية تدمير قرية لوط (ساعة الصفر)

هذا مثال تفصيلي يضربه الله لنا في القرآن الكريم، يبين كيفية إهلاك القرى الظالمة، ممثلة في إهلاك قوم لوط، إن لوطاً u أرسله الله إلى القرية التي كانت تعمل الخبائث، تلك القرية التي كان الرجال يأتون الرجال شهوة من دون النساء، ويقطعون السبيل ويأتون في ناديهم المنكر، فأنذرهم لوط u بعاقبة ما يفعلوه لكنهم كذبوه، ولما جاء موعد إهلاكهم، أرسل الله إليهم رسلاً من الملائكة ليخرجوا لوطاً ومن معه من المؤمنين؛ وليهلكوا أهل القرية التي كانت تأتي بفاحشة ماسبقهم بها من أحد من العالمين، وقدر الله أن تكون امرأة لوط u مع الهالكين، قال تعالى: )فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ( (الأعراف: الآية 83)، وقال تعالى: )فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (170) إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ( (الشعراء: الآيتان 170 و171).

لقد أمر الله ملائكته بإخراج المؤمنين من القرية قبل إهلاكها، فلم يجدوا فيها من المؤمنين غير بيت واحد من المسلمين (لوط u وأهله إلا إمراته كانت من الكافرين)، قال تعالى مشيراً إلى سؤال إبراهيم u للملائكة قبل ذهابهم إلى قرية لوط: )قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (31) قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (32) لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ (33) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ (34) فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (35) فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ( (الذاريات: الآيات 31 – 36).

أمرت الملائكة لوطا ًu بالخروج ليلاً، وأخبرته أن هلاك القرية سيكون وقت الشروق: )فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ( (الحجر: الآية 73)، يقول I )فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ( وهي الصوت القاصف عند شروق الشمس وقت طلوعها، وذلك مع رفع قريتهم إلى عنان السماء، فلما جاء وقت إهلاكهم جعلت الملائكة عاليها سافلها، وأمطروهم بحجارة من سجيل منضود.

أصدرت الملائكة أوامرها إلى لوط u بالخروج من القرية مصطحباً أهله قبل إهلاكها، أصدروا تعليمات تفصيلية دقيقة لنجاته هو ومن معه قبل (ساعة الصفر)، تدبر دقة تلك الأوامر التي أصدروها إليه: )فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ (65) وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلَاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ( (الحِجر: الآيتان 65 و66).

تدبر قول الملائكة للوط u وهم يخرجوه من القرية سالما قبل إهلاك أهلها، لقد أمر الله ملائكته بنجاة المؤمنين، وهو أمر فيه كل تفاصيل نجاتهم، فقد وعد الله بذلك والملائكة ينفذون ما وعد، يأمرون لوطاً u بأن يتحرك من بيته ليلاً هو وأهله سراً، وأن يسير u خلفهم ليكون أحفظ لهم، وأن يمضوا حيث يؤمرون، كأن هناك من يوجههم إلى طريقهم الآمن )وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ(، أمروهم بألا يلتفت منهم أحد عند سماع الصيحة من خلفهم، خطة محكمة لنجاة المؤمنين، كل شيء مخطط ومرتب ومدبر وموقوت، وليس كما يظن الغافلون بأن نجاة المؤمنين تحدث عشوائياً، أو مصادفة!!، فالمنفذون وهم من جنود الله غير المرئيين، ينفذون كل شىء بأعلى درجات الدقة والإتقان، فهم لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون.

1. تعليمات محددة وأوامر واضحة ومفصلة وصارمة

لم يترك الملائكة للناجين أي استنتاجات أواستفسارات، لقد حددوا للوط u تفاصيل كل شيء، وفى الوقت نفسه حجبوا عن الهالكين أي معلومات عن أي شيء، أحاطوا الأحداث المقبلة بالسرية والكتمان وأخفوها عن الهالكين، إن موضوع تدمير قرية لوط بكاملها عدا الناجين منها، أمر خطير للغاية!! فهو هجوم مخطط ومدبر ومفصل ومباغت في الوقت نفسه، تدبر تلك التعليمات الواضحة التى حددتها الملائكة للوط u: )قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ( (هود: الآية 81).

هكذا صدرت تعليمات محددة وتفصيلية من الملائكة إلى لوط u، أمرته الملائكة بأن يصطحب أهله، وأن يسرى بهم بقطع من الليل خارج القرية (أجزاء من الليل للسرية)، كما أمروه بألا يلتفت أحدُ من آهله عند سماعهم الأصوات المروعة من خلفهم، وأخبروه أيضا بهلاك امرأته فإنه مصيبها ما سيصيب قومها في الصباح، فبعد ساعات قليلة تنكشف الأستار، وتتجلى (ساعة الصفر)، ويرى قوم لوط الموت في كل مكان، وتخرب ديارهم، ويحل الدمار بقريتهم!!، بعد قليل ترفع الملائكة القرية إلى أعلى ثم يتركونها تهوى، ويمطرون أهلها بحجارة من سجيل منضود.

إن هذا الأمر عجيب حقاً!!.. فهل هناك ترتيبات وتدابير، وتعليمات وأوامر وتوقيتات، لإهلاك قرية ظالمة أدق من هذا ؟!!، إن إهلاك الظالمين شيء مؤكد وحتمي، ونجاة المؤمنين شيء مؤكد وحتمي أيضاً، وأن (ساعة الصفر) لا بد وأن تأتي للظالمين وتتحقق.

ألا ترى معي أن هذا التدبير الإلهي المحكم لنجاة المؤمنين، والممثل في نجاة لوط u ومن معه من المؤمنين، يدعونا إلى الثقة بالله في إهلاك الظالمين أيضاً ولو بعد حين؟، إن هناك كائنات تتحرك من حولنا تتحرك بأمر ربها، ينفذون وعده بإهلاك الظالمين ونجاة المؤمنين، وقد ذكرنا من قبل أن الملائكة على علم من الله بأسلوب الإهلاك ووسيلته وأداته، وكذلك موعد الهلاك، ولديهم تعليمات محددة وصارمة في تنفيذ خطة نجاة المؤمنين من تلك القرى، وذلك على النحو الذي بيناه.

2. وهذه حقائق مهمة نؤكدها

أ. معرفة الملائكة لأسلوب الإهلاك ووسيلته وأدواته:

(1) يحيط الله ملائكته المنفذين بتفاصيل الإهلاك قبل شروعهم في التنفيذ، يحيطهم الله علما بأسلوب الإهلاك ووسيلته وأدواته، ودليل ذلك أن الملائكة حين نزلوا ضيوفاً على إبراهيم u، وسألهم إبراهيم u عن وجهتهم، قالوا أن الله قد أرسلهم إلى قوم مجرمين (قوم لوط)، ليرسلوا عليهم حجارة من طين، فهم على علم بأسلوب ووسيلة الإهلاك وأدواته قبل التنفيذ، قال تعالى مصوراً الحوار الذي دار بين إبراهيم u والملائكة، قال إبراهيم للملائكة: )فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (31) قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (32) لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ (33) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ( (الذاريات: من الآية31، والآيات 32 – 34).

(2) أصبح الأمر واضحاً ومعلوماً لديهم ولدى إبراهيم u أيضاً، الكل أصبح يعلم أسلوب إهلاك قوم لوط ووسيلته وأداته قبل الذهاب إليهم وتدميرهم، أسلوب الإهلاك المحدد كان (الرجم)، ووسيلة التنفيذ كانت (الملائكة أنفسهم)، وأداة الإهلاك كانت (حجارة من طين)، تدبر قول الملائكة المنفذين لإبراهيم u: )لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ(، هكذا تبين لنا الآيات الكريمات أن الملائكة يعلمون التفاصيل، فالأداة المستخدمة في الإهلاك يعلمون أنها )حِجَارَةً مِنْ طِينٍ(، ويعلمون أيضاً أنها مكتتبة عند الله بأسماء الهالكين، كل حجر عليه اسم صاحبه، يرصده حتى يهلكه دون أدنى خطأ )مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ(.

ب. معرفة الملائكة بموعد الإهلاك ووقته

(1) إن الله I يخبر ملائكته بموعد إهلاك الظالمين ويحدد لهم الوقت، (قد يكون الوقت بياتاً وهم نائمون، أو نهاراً وهم قائلون، أو ضحى وهم يلعبون!) أياً كان الوقت فقد علموه من ربهم مسبقا، فالوقت محددُ للملائكة من قبل ويعرفونه معرفة دقيقة، دقة يعجز عن تصورها الإنسان، دقة لا تدخل في قواميس الانضباط التى نعرفها على الأرض، لقد علمت الملائكة بموعد إهلاك قوم لوط بكل دقة والذي تحدد له وقت (الصبح)، وقد أخبروا لوطاً u حين ذهبوا إليه بذلك: )إِنَّ مَوْعِدَهُمْ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ( (هود: من الآية 81).

(2) الملائكة ملتزمون بتنفيذ عقاب الله الذي كتبه على الظالمين، فهم ملائكة غلاظ شداد لا يعصون أمر الله، ويفعلون ما يؤمرون بأعلى درجات الدقة والانضباط، فهي أوامر تأتى من رب العالمين، أوامر لا تقبل التردد أو العصيان، كما أن حسابات الوقت أثناء التنفيذ، هي حسابات بالغة الدقة والإتقان، لا تقديم فيها ولا تأخير، هكذا تذهب الملائكة وتحضر في مكان الحدث، وتعد ترتيباتها قبل (ساعة الصفر)، ويبدأ العد التنازلي قبل تنفيذ الهجوم على الظالمين، ذلك في الوقت الذي يكون فيه الظالمون في غمرتهم ساهون، لايدرون ما الذى يُدَبر لهم، فبعد عدة ساعات ستمطرهم الملائكة بمطر السوء، حجارة من سجيل منضود وهم لا يشعرون!!، فيلقون مصارعهم مرجومين، وهناك عدة حقائق بينها القرآن الكريم:

(أ) أن الملائكة علمت مسبقا تفصيل موعد إهلاك قرية لوط.

(ب) أن الملائكة أخبرت لوطا u بموعد إهلاك القرية قبل بدء التنفيذ، ليجهز نفسه وأهله للنجاة ليلاً قبل أن يحل عليهم الصباح: )قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ( (هود: الآية 81).

(ج) أن الملائكة على معرفة تامة بأسلوب نجاة المؤمنين، وليس لها أن تترك المؤمنين يُهلكون مع الهالكين، فهذا يخالف سُنة الله في عقاب الظالمين، ويخالف أيضاً سُنة الله في نجاة المؤمنين، فنجاة المؤمنين من القرى الظالمة أمر حتمي، فقد أوجب الله I على نفسه نجاتهم، قال تعالى: )ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ( (يونس: الآية 103). فالعشوائية غير واردة لا في تنفيذ إهلاك الظالمين ولا في نجاة المؤمنين، فكل شىء عند الله بحسابات وترتيبات، يدبرها الله من فوق سبع سماوات، وما على الملائكة إلا أن تقوم بالسمع والطاعة والتنفيذ.

(د) الملائكة ينفذون كل شيء بحسابات دقيقة ومعقدة ومتشابكة، إجراءات متشعبة وموقوته بين (الهالكين والناجين)، أي بين الكافرين والمؤمنين. تتحرك الملائكة في اتجاهات متعددة وفي توقيتات محددة، فلا احتمالات عندهم لخطأ في التنفيذ، ولا غفلة ولا غفوة، فلا احتمالات مثلاً بأن يُترك أحد من المؤمنين ليهلك مع الهالكين، ولا يوجد احتمال أن يهرب أحد من الذين كُتِب عليهم الهلاك لينجو مع الناجين، فما أراده الله أن يحدث لا بد وأن يحدث ولا بد من تنفيذه. قال تعالى: )وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ( (يوسف: من الآية 21).

رأينا أن إهلاك القرى الظالمة لا يتم عشوائياً، وأن إهلاكها له ترتيبات مسبقة وتوقيتات محسوبة، والملائكة تتلقى من ربها الأوامر بالتدمير والإهلاك، في الوقت والمكان المحددين، وبالأسلوب والوسيلة والأداة التى حددها لهم الله من قبل، نظام ملكوتي مُحكم ثابت لا يتغير ولا يتبدل. نظام ملكوتي محكم التدبير يدبره العليم الخبير، تنفذه ملائكة موكلون بكل دقة ويفعلون ما يؤمرون!، وحين يأتي موعد هلاك الظالمين (ساعة الصفر)، فلا تأجيل ولا تقديم، وقد بين لنا القرآن الكريم كيف تسير تلك الأمور بوضوح تام، دون لبس أو تأويل.

من المهم أن نعلم أن الإهلاك بهذا الأسلوب ليس مقصوراً على الأقوام التى هلكت من قبل، فسواء كانت القرى الظالمة من السابقين أو اللاحقين فإن القاعدة العامة هي: (هلاك قرى الظالمين، ونجاة المؤمنين من تلك القرى)، وبتلك القاعدة تقر أعين المؤمنين في كل مكان، ويعلم الناس أن الله ليس بغافل عما يعمل الظالمون، قال تعالى: )وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ( (إبراهيم: الآية 42).

لقد قص الله على رسوله الكريم e من أنباء الرسل، ومن أنباء القرى ما يثبت به فؤاده، وعلى المؤمنين من بعده أن يتذكروا ويتعظوا بما جاء في تلك القصص لتثبت به أفئدتهم، قال تعالى: )وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (120) وَقُلْ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ (121) وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ( (يوسف: الآيات 120 – 122).