إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / موضوعات جغرافية وظواهر طبيعية / الموسوعة الجغرافية المصغرة









سادساً: الجغرافيا التاريخية Historical Geography
ج. النتائج المترتبة على التغيرات المناخية في الزمن الرابع

لم تقتصر التغيرات البيئية في الزمن الرابع وخاصة في البلايوستوسين على التغيرات المناخية، بل تعدتها إلى بعض النتائج التي تركت دلالاتها على صفحة سطح الأرض، والتي تتلخص في بقايا الغطاءات الجليدية، وما ارتبط بها من تغيرات بيئية في مناطق هوامش الجليد، وما خلفه الجليد في نطاق العروض العليا، والمطر في نطاق العروض الوسطى، من تكوينات إرسابية وظاهرات جيومورفولوجية، وحدوث تذبذب في مستوى سطح البحر، وما ارتبط به من تغير العلاقة بين توزيع اليابس والماء، ونشأة بعض الظواهر الجيومورفولوجية، خاصة على امتداد السواحل (الأرصفة البحرية)، أو على جنبات الأودية النهرية (المدرجات النهرية)، إضافة إلى التغييرات الهيدرولوجية والتغيرات في الغلاف الجوي، وأخيراً تأثير التغيرات البيئية في الإنسان، وفيما يلي دراسة لهذه النتائج.

(1) الغطاءات الجليدية في أواخر العصر الجليدي

تغير توزيع الجليد في نطاق العروض العليا بين الأدوار الجليدية وفترات الدفء، التي تخللت تلك الأدوار كما يتضح مما يلي:

(أ)    كان القسم الشمالي من قارة أوروبا ـ أثناء العصر الجليدي ـ مركزاً لغطاء جليدي ضخم، امتد امتداداً كبيراً نحو الجنوب والغرب والشرق. وفي بعض الفترات كان الجليد الشمالي يتصل بجليد مرتفعات اسكتلندا وأيرلندا. فيتكون من ذلك كله غطاء فسيح يشمل الجزر البريطانية جميعها. وفي الجنوب وصل امتداد الجليد إلى حواف مرتفعات ألمانيا الوسطى. وفي الشرق غطى الجليد كل القسم الشمالي من روسيا إلى أواسط مرتفعات الأورال. وتعتبر أراضي شمال أوروبا في حد ذاتها منطقة نحت واكتساح للجليد، لهذا فهي لا تحوي من مخلفات الجليد سوى ركامات التراجع الخاصة بالفترة الجليدية الأخيرة، أي مخلفات أواخر العصر الجليدي. أما في أمريكا الشمالية فقد تراكم الجليد البلايوستوسيني، وأخذ يزداد في شكل غطاء عظيم يشبه مثيله في شمال أوروبا، مغطياً القسم الشمالي من القارة. وكانت تمتد ـ أثناء فترات عصر البلايوستوسين الباردة ـ ألْسنة جليدية فسيحة Drifts نحو الجنوب ـ تتباين في اتساعها، وتختلف في امتدادها من فترة لأخرى، مما يسمح بتصنيف العصر الجليدي وتقسيمه إلى فترات ومراحل كما هو الحال في قارة أوروبا. وقد تمدد الجليد في وادي نهر المسيسبِّي إلى دوائر عروض أدنى بكثير من عروض امتداد الجليد في قارة أوروبا. وفي أثناء الفترة الباردة الأخيرة، كان للغطاء الجليدي في أمريكا الشمالية ثلاثة مراكز، كانت تزحف منها ألسنة الجليد: كان المركز الأول يقع فوق مرتفعات الروكي الشمالية. وكان المركز الثاني يغطي شبه جزيرة لبرادور. أما المركز الثالث فكان يقع فوق سهول كندا إلى الغرب من خليج هدسن. أما شبه جزيرة ألاسكا Alaska (وتقع أقصى الطرف الشمالي الغربي لأمريكا الشمالية) فلم يزحف الغطاء الجليدي على معظم أجزائها، وإنما كانت توجد بها ثلاجات جبلية. والسبب في ذلك واضح، إذ كان مناخ العصر الجليدي في تلك العروض الشمالية العليا من الجفاف بحيث لم يسمح بتكوين جليد عظيم الاتساع. إضافة إلى هذا، نجد أن بحر بيهرنج Behring لم يكن له وجود حينذاك. وكان اليابس يصل ما بين آسيا وشبه جزيرة آلاسكا، بسبب انخفاض مستوى البحار العالمية، أثناء فترات العصر الجليدي الباردة، ونتيجة لانتزاع كميات هائلة من مياهها تتساقط على اليابس في هيئة ثلوج وتتراكم عليه في شكل جليد.

(ب) تغير توزيع الغطاءات الجليدية خلال الهولوسين (العصر الحديث)، ففي المناطق الجبلية في قارة أوروبا، خاصة في جبال الألب، استمرت الغطاءات الجليدية إلى قبل عشرة آلاف سنة، وتراجع جليد السويد منذ نحو 7500 سنة، وفي شمال وغرب أمريكا الشمالية تراجع الجليد حتى وصلت حدوده إلى قرب حدوده الحالية، وكان ذلك منذ عشرة آلاف سنة غير أنه عندما عاد المناخ للبرودة في عصر الجليد الأصغر ـ الذي أشير إليه في موضع سابق ـ تجدد تكون الغطاءات الجليدية خاصة في مرتفعات الروكي الأمريكية.

(2) التغيرات البيئية في مناطق هوامش الجليد

تأثرت المناطق الواقعة على أطراف الغطاءات الجليدية بتغيرات بيئية، خاصة في المناخ والنبات الطبيعي، وقُدرت مساحة هذه المناطق بنحو رُبع مساحة سطح الأرض. وتشير الأدلة إلى أن الظروف المناخية، التي ميزت مناطق هوامش الجليد في الدور الجليدي الأخير (ريس Riss) ، شغلت نطاقاً امتدت حدوده الجنوبية في قارة أوروبا من جنوب فرنسا شرقاً، حول مقدمات جبال الألب وعلى طول امتداد وادي الدانوب.

ولا يختلف الحال في قارة أمريكا الشمالية، فقد سادت هذه الظروف نطاق المرتفعات الغربية لمسافة تزيد على مائة كيلومتر إلى الجنوب من نطاق الجليد، كما امتدت نحو الشرق في نطاق السهول لمسافة تصل إلى نحو 700 كيلومتر.

وتجدر الإشارة إلى أن مناطق واسعة من قارة أمريكا الشمالية لا زالت تسودها الظروف المناخية، التي أعقبت الدور الجليدي الأخير حتى الوقت الحاضر، إذ لا تزال تغطي ما يراوح بين 80 ـ 85% من مساحة شبه جزيرة ألاسكا Alaska، وحوالي نصف مساحة كندا، وما يقرب من مائة ألف كيلومتر مربع من أراضي الولايات المتحدة الأمريكية، معظمها في نطاق المرتفعات الغربية، تمتد نحو الجنوب حتى حدودها مع المكسيك.

(3) الإرسابات والظاهرات الجيومورفولوجية المتخلفة عن الجليد

خلف الجليد في مناطق العروض العليا بعض التكوينات الإرسابية والظاهرات الجيومورفولوجية، ومن التكوينات الإرسابية الركامات الجليدية Glacial Moraines وهي بقايا مفتتات صخرية أرسبت بعد ذوبان الجليد، وتمتد الركامات الجليدية في شمال قارة أمريكا الشمالية على شكل طولي تجمع بين الركامات الجليدية والرواسب الجليدية النهرية. وقد حددت هذه الخطوط من الركامات الجليدية شبكة التصريف النهري في قارة أوروبا، حيث تلتقي الروافد بأوديتها الرئيسية في امتداد من الشرق إلى الغرب وبزوايا شبه قائمة.

وتعد تربة اللوس Loess من أهم الإرسابات، التي تكونت في البلايوستوسين في أوراسيا (أوروبا وآسيا)، وهي عبارة عن مفتتات دقيقة حملتها الرياح من الركامات الجليدية وأرسبتها في نطاق، يمتد من جنوب إنجلترا إلى شمال فرنسا ومن سفوح جبال الألب والكربات الشمالية، إلى جنوب روسيا وتنتهي في شمال الصين، ولا يرجع تكون اللوس في أوروبا إلى فترة واحدة، وإنما إلى أكثر من فترة من فترات الدفء، ومن ثم يمكن القول بأن هناك لوس قديماً وآخر حديثاً نسبياً.

ومن أهم الظاهرات الجيومورفولوجية، التي خلفها الجليد، الثلاجات Glaciers أو الأودية الجليدية، التي تقطع سطح اسكنديناوه وإقليم وسط أوروبا.

وتعد البحيرات أهم ما خلفه الجليد في نطاق العروض العليا، فهي ترصع السطح في شمالي كل من أوروبا، وآسيا، وأمريكا الشمالية، ومنها بحيرات فنلندا والبحيرات التي تنتشر في مرتفعات النرويج، والسويد، واسكتلندا، ومن البحيرات الكبيرة، التي شارك الجليد في نشأتها إضافة إلى فعل القوى التكتونية، بحيرة لادوجا (حوالي 18 ألف كم2)، وبحيرة أونيجا (حوالي 12 ألف كم2) وتقعان في إقليم كاريليا الروسي، إضافة إلى بحيرتي فترن وفنرن في جنوب السويد، وبحيرة كونستانس في ألمانيا وسويسرا.

ومن أشهر البحيرات الجليدية في كندا أتباسكا Atabaska وجريت بير Great Beer وجريت سليف Great Slave، ووينيبج Winnipeg .

(4) الغطاءات الجليدية وأثرها في التوازن الأرضي

تُعَدّ شبه جزيرة اسكنديناوه (في أقصى الشمال الغربي لقارة أوروبا)، التي تأثرت بالغطاءات الجليدية المتكونة خلال عصر البلايوستوسين، مثالاً واضحاً لما يحدث إذا ما تعرضت قشرة الأرض للهبوط نتيجة الغطاءات الجليدية. فأثناء العصر الجليدي، كان الجليد يغطي مساحة كبيرة من شبه جزيرة اسكنديناوه والمناطق المحيطة بها، في مساحة تبلغ أكثر من مليون ونصف ميل مربع. وامتد الجليد صوب الجنوب والجنوب الشرقي، وغطَّى مساحات واسعة من شمال أوروبا.

وقد بلغ متوسط سُمك هذه الطبقة الهائلة من الجليد أكثر من ثلاثة آلاف قدم، بينما وصل إلى ستة آلاف قدم في بعض جهات النرويج. وقُدِّر ضغط هذا الغطاء الجليدي السميك بأنه يعادل ضغط كتلة ضخمة من الصخر حوالي 80 طناً على القدم المربع من قشرة الأرض.

(5) تذبذب مستوى سطح البحر والظاهرات المرتبطة به

ترتب على التغيرات المناخية في الزمن الرابع حدوث تذبذب في مستوى سطح البحر، وبالتالي اختلاف توزيع اليابس والماء، كما صاحب هذه التغيرات حركات أرضية باطنية، كما أدى تذبذب مستوى سطح البحر خلال الزمن الرابع تكوُّن الأرصفة البحرية على امتداد السواحل والمدرجات النهرية على جنبات الأودية النهرية، إضافة إلى المعابر البرية Land Bridges في المناطق الضيقة من المسطحات المائية بين اليابس.

(أ) مناسيب البحر في الزمن الرابع

تعرض مستوى مياه البحار أثناء الزمن الرابع لذبذبات أمكن رصدها في كثير من سواحل بحار العالم، إذ أنه من السهل التعرف على المناسيب العالية السابقة لمياه البحار العالمية، وعلى العكس فمن الصعب معرفة وتحديد خطوط المناسيب المنخفضة لمياه البحار، التي غمرتها وغطتها مياه البحار في الوقت الحاضر وقياس المسافات بينها وبين خطوط الساحل الحالي، ويمكن كشف النقاب عن هذه المناسيب المنخفضة عن طريق دراسة الأشكال القارية الغارقة، ودراسة سواحل الرياس Rias Shores أو سواحل القنوات والمجاري المائية الغارقة، ودراسة التكوينات النهرية في قاع البحر الضحل.

خلال النصف الأول من البلايوستوسين، تكونت الكتل الجليدية، التي سلبت كميات كبيرة من مياه البحار، ثم انحبست هذه المياه داخل اليابس على شكل كتل جليدية، وترتب على ذلك هبوط في مستوى سطح البحر، وقد قُدر منسوب سطح البحر عند بداية البلايوستوسين بحوالي مائة متر أعلى من مستواه الحالي، وفي خلال فترة جليد جونز هبط مستوى سطح البحر إلى أقل من مستواه الحالي بنحو عشرة أمتار، أي أنه انخفض بمقدار 110 أمتار عما كان عليه في بداية البلايوستوسين، ثم عاد البحر إلى الارتفاع التدريجي مرة أخرى مع ذوبان الجليد في فترة الدفء الأولى (جونز ـ مندل) وقُدر بنحو 55 متراً فوق مستواه الحالي، وعاد بعد ذلك للهبوط مرة أخرى في فترة جليد مندل حتى وصل إلى أقل من مستواه الحالي بنحو 45 متراً، وهكذا استمرت ذبذبة البحر بين انخفاض وارتفاع في فترات البرودة والدفء التي تلت جليد مندل. وقد أسهمت هذه التغيرات في تشكيل الخصائص الطبيعية لمياه البحار إبان البلايوستوسين، ففي فترات البرودة ارتفعت نسبة الملوحة ارتفاعاً كبيراً وتكونت بالمسطحات المائية بحار ملحية عظمى، كما حدث لمياه البحر البلطي، بينما انخفضت نسبة الملوحة خلال فترات الدفء.

وقبل انتهاء الدور الجليدي الأخير ـ أي منذ حوالي 18000 سنة ـ تحولت كميات كبيرة من مياه البحار والمحيطات إلى اليابس مكونة غطاءات جليدية وثلاجات، ومن ثم حدث انخفاض واضح وملحوظ في مستوى سطح البحر، إذ هبط عن مستواه الحالي بنحو 13 متراً، كما عملت الغطاءات الجليدية على هبوط اليابس في فينوسكانديا وإنجلترا.

وبعد حلول الدفء، منذ حوالي 16 ألف سنة عادت المياه إلى البحار والمحيطات بعد ذوبان الجليد Deglaciation، وترتب على ذلك ارتفاع في اليابس بعد أن تخفف الثقل الجليدي، التي كانت تتعرض له المناطق التي تأثرت بالجليد من قبل، فقُدر ارتفاع الأراضي المحيطة بالبحر البلطي بنحو 700 متر في العصر الحديث (الهولوسين)، وفي اسكتلندا حوالي 250 متراً. وقُدر الارتفاع في منسوب سطح السواحل في قارة أمريكا الشمالية بحوالي 200 متر إلى الشرق من خليج هدسن.

وقد أثبتت الأدلة حدوث ارتفاع تدريجي في مستوى سطح البحر في الوقت الحاضر بسبب تراجع الجليد وذوبانه في المناطق الجبلية والساحلية في نطاق العروض العليا. ويؤكد ذلك التقديرات التي أثبتت حدوث ارتفاع في منسوب البحر أمام سواحل جنوب غرب كورنول في إنجلترا بنحو2.3 ملليمتر في السنة، وأمام سواحل الدانمرك والسواحل الشمالية لألمانيا بحوالي 3.5 ملليمتر في السنة، وفي تقدير آخر، أن مستوى سطح البحر قد ارتفع في المائة سنة الأخيرة بما يراوح بين 10 ـ 15 سنتيمتر، وفي تقدير ثالث أن الارتفاع في درجات حرارة مياه البحار قد أسهم في الزيادة في منسوب سطحها في العشر سنوات الواقعة بين عامي 1980 ـ 1990 بما يراوح بين 2 ـ5 سنتيمترات، بينما أسهم ذوبان ثلوج الأودية الجليدية بما يراوح بين 2 ـ 7 سنتيمترات.

ولم يتوقف الأمر على ذلك، بل أمكن وضع بعض التقديرات لمستوى سطح البحر في القرن الواحد والعشرين، ففي الربع الأول ـ كما يوضح (شكل التغيرات المتوقعة في منسوب سطح البحر) ـ من هذا القرن يتوقع حدوث ارتفاع بحوالي 18 سنتيمتراً، يصل مع بداية الربع الأخير إلى 44 سنتيمتراً، ومع نهاية القرن الواحد والعشرين يتوقع أن يصل مقدار الارتفاع في مستوى سطح البحر إلى نحو 66 سنتيمتراً.

(ب) الظاهرات المرتبطة بالتغيرات في مستوى سطح البحر

ارتبطت بالتغيرات في مستوى سطح البحر خلال الزمن الرابع تكون عدد من الظاهرات أهمها الأرصفة البحرية Marine Shelves، والمدرجات النهرية River Terraces.

- الأرصفة البحرية

تعكس الأرصفة البحرية التذبذب في مستوى سطح البحر في الزمن الرابع، خاصة في العصر الجليدي البلايوستوسين Pleistocene Glacial Epoch، وعلى أساس منسوب سطح البحر في بداية البلايوستوسين، الذي بلغ نحو مائة متر فوق مستواه الحالي، فالأرصفة البحرية البلايوستوسينية يشترط أن تقع في مناسيب أدنى من مائة متر، وإذا وجدت خطوط للشواطئ في أي منطقة أعلى من هذا المنسوب، فهي إما أنها قد تكونت بفعل البحر قبل البلايوستوسين أو تكون قد تكونت بفعل عوامل تكتونية.

وقد أمكن التعرف على عدة أرصفة قديمة في سواحل الريفييرا الإيطالية والفرنسية وسواحل الجزائر، وتقع على مناسيب 265، 204، 148، 103، 60، 30، 25، 18، متراً. وبناءً على منسوب البحر في بداية البلايوستوسين تُنسب الدرجات الأربع الأولى إلى فترات سابقة للبلاستوسين في حين يخص البلايوستوسين الدرجات الأربع الأخيرة.

ووضع كل من جيجنو Gignoux سنة 1913، وديبيريه Deperet سنة 1918، مسميات للأرصفة البحرية، التي قاما بدراستها في جنوب إيطاليا وجزيرة صقلية، وأصبحت هذه التسميات الأساس، الذي بُنيت عليه كل الدراسات الأخرى الخاصة بشواطئ البحر المتوسط. وتتابع هذه الأرصفة على النحو التالي: واُنظر (شكل الأرصفة البحرية).

الرصيف الكالابري  Calabrian ويوجد هذا الرصيف في جنوب إيطاليا، ويشمل كل الدرجات الساحلية التي تقع بين منسوب 100 حتى 200 متر فوق مستوى سطح البحر المتوسط الحالي، وهو ينسب إلى ما قبل البلايوستوسين، ويحتوي على قواقع محبة للبرد وأخرى محبة للدفء، ويستدل منها على بداية تغير المناخ نحو البرودة.

الرصيف الصقلي Sicilian ويوجد بالقرب من بالريمو بصقلية، ويتفاوت منسوبه بين 80 إلى 100 متر فوق مستوى سطح البحر الحالي، ولا يوجد هذا الرصيف على الساحل الأفريقي إلا غرب المغرب، ويُعتقد أن هذا الرصيف قد تكون في أواخر البلايوسين (الزمن الجيولوجي الثالث) وأوائل البلايوستوسين، وظهر على السطح خلال فترة الدفء الأولى (جونز ـ مندل) ويقدر عمره بنحو 660 ألف سنة.

الرصيف الميلازي Millazzo ويوجد بالقرب من بلدة ميلازو شمال صقلية، وتقع درجاته بين ارتفاعي 55 إلى 60 متراً فوق سطح البحر المتوسط الحالي. ويتمثل هذا الرصيف على كل من الساحل الأوروبي والساحل الأفريقي، ويحوي الحفريات نفسها التي وجدت في الرصيف الصقلي، ويقدر عمر هذا الرصيف بنحو نصف مليون سنة.

الرصيف التيراني Tyrhenian ويوجد جنوب إيطاليا، ويتكرر في مواقع أخرى في حوض البحر المتوسط كما هو الحال في نيس، وموناكو، وقبرص، وكورسيكا، وقرطاجة شرق أسبانيا، وتمتد درجات هذا الرصيف بين 35 إلى 40 متر فوق مستوى سطح البحر الحالي، ويحوى الرصيف حفريات محبة للدفء على عكس الرصيف الصقلي، وترجع نشأته إلى فترة الدفء الثانية (مندل ـ ريس) أي من حوالي 270 ألف سنة.

الرصيف الموناستيري Monasterian ويقع بالقرب من بلدة موناستير في تونس، وتمتد درجاته بين ارتفاعي 7 إلى 8 أمتار، ويُعتقد أن نشأته تعود إلى فترة الدفء الثالثة (ريس ـ فورم) ويراوح عمره بين 125 إلى 150 ألف سنة.

الرصيف الفلندري Flandrienne يوجد هذا الرصيف على ساحل الفلاندر في بلجيكا على بحر المانش، ويتفاوت منسوبه بين 3 إلى 4 أمتار، ويُعتقد أن نشأته تعود إلى بعد انتهاء دور فورم، ويعرف أحياناً باسم الرصيف الفيرسيليVersilienne نسبة إلى الساحل المسمى Bassa Versilia شمال بلدة بيزا Pisa في إيطاليا، ويعود تاريخ الرصيف الفلندري إلى نحو خمسة آلاف سنة.

- المدرجات النهرية

يقابل الأرصفة البحرية على السواحل ظاهرة المدرجات النهرية فوق اليابس على جنبات الأنهار، وتنشأ بفعل هبوط مستوى سطح البحر، ويشير وجود المدرجات النهرية إلى قدرة النهر على النقل والنحت.

لا يقتصر وجود المدرجات النهرية على الجهات التي مرت بفترات مطر، بل توجد أيضاً على جنبات الأودية النهرية التي تعرضت للجليد، فعندما بدأت الثلاجات في الزوال أخذت تغذي الثلوج الذائبة الأنهار بالمياه، التي تحمل معها كميات كبيرة من الحصباء، فإذا ارتفع مستوى البحر، ركد الماء في الأنهار وأُرسبت الحصباء في قاع الوادي، ونتيجة لذلك يرتفع مستوى الماء في الوادي وبالتالي يزداد عرضه وتتكون فيه طبقات حصباوية تمتد لمسافات بعيدة، ومثل هذا الوادي الممتلئ بالحصباء قد ينحته ويعمقه من جديد الماء المتدفق نتيجة لانصهار الثلوج، وبطبيعة الحال لا تُنحت كل الطبقات الحصباوية، بل يبقى بعضها، وتظهر هذه الطبقات الحصباوية المتخلفة كدرجة على طول جوانب الوادي حتى بعد الدورة الثانية للذوبان وامتلاء الوادي بالحصباء من جديد.

وتناولت العديد من الدراسات الأودية النهرية في مناطق مختلفة من العالم، وأمكن التعرف على عدد كبير من المدرجات رُصفَت بالأرصفة البحرية، في محاولة للتعرف على مناسيب البحر في الزمن الرابـع، وقد درس كل من سـاندفورد Sandford وأركـل Arkel، سنة 1933، وجـون بول J. Ball سنة 1939، وحزين Huzayyin سنة 1940 مدرجات نهر النيل وتبين وجود تسعة مدرجات ـ كما يوضح (شكل قطاع لوادي النيل) ـ تتتابع على الارتفاعات التالية 150، 115، 90، 60، 45، 30، 15، 9، 3، أمتار، ولا تواجد هذه المدرجات بانتظام على جانبي النهر على طول مجراه، فقد يختفي أحد المدرجات في موضع معين ويظهر في موضع آخر.

(6) التغيرات في الغلاف الحيوي

تعد التغيرات التي حدثت في الغلاف الحيوي، من أهم النتائج المترتبة على التغيرات المناخية في البلايوستوسين، وتتمثل في توزيع الغطاءات النباتية، وأنواع الحيوانات وأنواع التربة وخصائصها، كما كان لهذه التغيرات البيئية أثرها الواضح على الإنسان.

عندما وقعت قارات شمال العالم تحت وطأة الجليد، تقلصت نطاقات الغابات الصنوبرية والنفضية بشكل واضح ومميز، وتزحزحت نحو الجنوب لتحل محل الحشائش المعتدلة، وعلى أطراف الغابات الصنوبرية، عاشت أنواع من الحيوانات المحبة للبرد مثل الرنة، والدببة القطبية، وفي المناطق المدارية وشبه المدارية اتسعت نطاقات المراعي، نتيجة لزيادة كميات الأمطار ـ في الدور المطير الأول، الذي استغرق الفترة من بداية دور جليد جونز إلى أواخر دور ريس ـ ومن ثم أصبحت هذه المراعي مرتعاً للحيوانات العاشبه والمفترسة.

وقد حدث العكس في فترات الدفء في العروض الشمالية والفترات الجافة في نطاق العروض المدارية وشبه المدارية، إذ اتسعت الغابات الصنوبرية والنفضية على حساب المناطق التي غطاها الجليد في العروض الشمالية، وفي الوقت نفسه، قلت مساحات الحشائش نتيجة لقلة المطر في العروض المدارية وشبه المدارية، وهاجرت حيواناتها تجاه الشمال. وترتب على التغيرات في الغطاءات النباتية وأنواع الحيوانات تغيرات في التربة، ففي فترات البرودة في مناطق العروض الشمالية، تعرضت التربة للتجمد وقلت فيها نسبة المواد العضوية، وفي المقابل ـ في العروض المدارية وشبه المدارية ـ اتسعت المساحات التي تشغلها تربة اللاتريت نتيجة لزيادة الأمطار وارتفاع درجة الحرارة في الفترات المطيرة، غير أنه في فترات الجفاف زادت الأملاح في مكونات التربة، كما هو الحال في مناطق شمال أفريقيا وغرب آسيا.

(7) أثر التغيرات البيئية في الإنسان

كان للتغيرات المناخية التي ميزت البلايوستوسين وما ارتبط بها من تغيرات بيئية أخرى أثرها الواضح في الإنسان، وقد اتخذت هذه التأثيرات عدة جوانب، منها ما يتصل بالإنسان نفسه من حيث تطوره البيولوجي وانقسامه إلى سلالات، ومنها ما يتصل بالتطور الحضاري والانتشار الحضاري.

من المعروف أن الإنسان تطور بيولوجياً بشكل تدريجي خلال عصر البلايوستوسين وربما في عصور سابقة وذلك إذا تم الربط بينه وبين أنواع أخرى من الحياة ـ إذ تعود أقدم حفرية للإنسان إلى نحو خمسة ملايين سنة حيث تم اكتشاف بقايا هيكل ربما كان بشرياً في منطقة تبارين Tabarin في كينيا ـ وقد نسبت هذه الحفرية إلى نوع القرد الجنوبي Australopithecus ـ وما أن قارب عصر البلايوستوسين على الانتهاء ظهر الإنسان العاقل Homo Sapeins جد الإنسان الحالي.

وتتمثل علاقة التغيرات البيئية بالإنسان في التطور الحضاري والانتشار الحضاري، فصناعة الحصى Pebbles Industry هي أقدم صناعات الإنسان، التي ربما عُرفت في أرض مكشوفة في شمال وشرق أفريقيا، وفي هذه المناطق تطورت هذه الصناعة إلى صناعة الفأس اليدوية في العصر الحجري القديم حيث انتشرت إلى أوروبا وجنوب أفريقيا والهند، وارتبطت هذه الصناعة ببيئات غابية مكشوفة، وما أن تغير المناخ في أواسط البلايوستوسين وحل الجفاف واختفت الغابات المكشوفة من جهات عديدة في قارات العالم القديم تطورت صناعة الفأس اليدوية إلى صناعة الشظايا التي اقترنت بالجفاف أولاً ثم بالبرودة، ثم كانت المرحلة الرابعة في التطور الحضاري عندما عرف الإنسان صناعة النصال، وقد تميزت هذه المرحلة بتنوع البيئة الطبيعية وقدرة الإنسان في التغلب على صعوبات البيئة. وبعد انتهاء الدور الجليدي الأخير حل الجفاف في شمال أفريقيا والدفء والأمطار في أوروبا، وإزاء هذا التغير في المناخ صارت الحيوانات صغيرة الحجم، فغير الإنسان من أدواته التي صارت قزمية ذات أشكال هندسية، ومع انتهاء هذه الفترة وبداية العصر الحجري الحديث عرف الإنسان الزراعة واستئناس الحيوانات والاستقرار في قرى ثابتة.

ولا شك أن التغيرات البيئية، وما ارتبط بها من انتشار الإنسان، وممارسته حرفاً مختلفة تمت في مراحل تطورية، كان لها أثر واضح في تطور حجم السكان، إذ يوضح (جدول تقدير حجم سكان العالم وكثافتهم في عصور ما قبل التاريخ وخلال الفترات التاريخية) اختلاف حجم سكان العالم وكثافتهم من فترة إلى أخرى، كما يلاحظ أن التطور الحضاري في مراحله المبكرة لم ينجم عنه إلا زيادة بطيئة في حجم السكان وكثافتهم، وفي الوقت نفسه، أدت الثورات الزراعية، والصناعية، والحضرية، التي حدثت خلال الستة آلاف سنة الماضية إلى تغير كبير في الحجم والكثافة.

عاش في البلايوستوسين عدد قليل من السكان، إذ تراوحت أعدادهم بين 125 ألف نسمة إلى ثلاثة ملايين نسمة، وبعد انتهاء هذا العصر ومنذ عشرة آلاف سنة زاد عدد السكان إلى نحو ثمانية ملايين نسمة، وقُدرت الكثافة آنذاك بنحو خمسة أشخاص لكل مائة كيلو متر مربع، ومع تقدم الإنسان حضارياً زاد عدد السكان، إذ قُدر في العصر الحجري الحديث بما يراوح بين 50 ـ 80 مليون نسمة، وارتبطت هذه الزيادة بحياة الاستقرار ومعرفة الزراعة واستئناس الحيوان وبالتالي زيادة الإنتاج والغذاء، ولم يتعد سكان العالم المليار نسمة إلا منذ مائة وخمسين سنة الأخيرة، وزادوا في الوقت الحاضر إلى نحو 5384 مليون نسمة سنة 1991 وبكثافة تصل إلى 38 نسمة / كم2، أو ما يعادل نحو 950 مرة قدر كثافة السكان في البلايوستوسين، وما يقرب من عشرين مرة قدر ما كانت عليه من ألفي سنة.