إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / موضوعات سياسية عسكرية / مشكلة دارفور، وتداعياتها المحلية والإقليمية والعالمية






مناطق اللاجئين
إقليم دارفور
حدود إقليم دارفور



الفصل الأول

المبحث الأول

العوامل المؤثرة على الأزمة

ظل إقليم دارفور، على مدى ثلاثة عقود، يعيش أوضاعاً مضطربة، ولم يعرف الاستقرار الأمني والسياسي والاقتصادي والاجتماعي بسبب ظواهر طبيعية وأمنية وسياسية. فقد عانت المنطقة من فترات جفاف وتصحر قادت إلى ثلاث مجاعات كبيرة عام 1973، وعام 1985، وعام 1992. وأدى شح الأمطار في شمالي الإقليم ووسطه إلى نزوح أعداد كبيرة من السكان جنوباً، إلى مناطق السافانا المدارية حول جبل مرة، والمناطق الحدودية مع أفريقيا الوسطى وتشاد. كما أدت إلى نفوق أعداد كبيرة من الماشية وظهور حالات فقر وسط القبائل الرعوية، خاصة رعاة الإبل والأبقار في شمالي وغربي المنطقة، بسبب تمدد التصحر جنوباً. فقد ظل يتمدد سنوياً بمعدل ثلاثة كيلومترات حتى باتت جميع مناطق شمال ووسط دارفور صحراوية، جرداء وشبه صحراوية، بسبب عامل الطبيعة. ومن ثَم، فإن أزمة دارفور تأثرت بعدة عوامل، منها ما هو تاريخي، وما هو بيئي. كما تأثرت بأطماع دولية في ثروة الإقليم. ويمكن الإشارة إلى بعض جوانبها في الآتي:

أولاً: الميراث التاريخي للأزمة

تتفاوت الآراء حول الجذور التاريخية لإقليم دارفور؛ فهناك من يرى أن دارفور عاشت كدولة مستقلة خلال الفترة من (1650 – 1916)، وكانت تسمي "سلطنة الفور"، ويرى آخرون أن سلطنة دارفور نشأت واستمرت في الفترة الممتدة بين الأعوام (1445 و1874)، وأن تلك السلطنة الإسلامية قامت إلى جانب سلطنات وممالك إسلامية في الحزام السوداني، مثل: مملكة سنار، ثم كردفان، ومملكة وداي، والباقرمة، ومملكة برنو، ومملكة سكتو، وغيرها. وقد أصبحت دارفور جزءاً من السودان بعد عام 1874.

وقد أسهم التجاهل الذي عانت منه دارفور ـ في كثير من الأحيان ـ من جانب الحكومات الوطنية السودانية المتعاقبة في عزلتها عن باقي الوطن. كما أسهم نظام الحكم الإقليمي المطبق في دارفور في عام 1982، في تكريس تخلف التنمية الاقتصادية. وفى العام 1991، قُسمت دارفور إلى ولايات: شمال دارفور (الفاشر)، جنوب دارفور (نيالا)، وغرب دارفور (الجنينة). وعلى الرغم من هذا التقسيم، برزت تعقيدات جعلت دارفور الكبرى أقل أجزاء السودان اندماجاً في الوطن، وذلك للتخلف التنموي الذي عانته؛ إضافة لبعدها عن المركز وضعف شبكة المواصلات ووعورة الطرق. وتبلورت صورة السودان الحالية في عهد الحكم التركي ـ المصري 1820 – 1885، وقبل ذلك ساد الصراع القبلي وهيمنة بعض القبائل على الآخرين. وقامت السلطنات الإقليمية وهي: الفونج في أواسط السودان، والفور في غرب السودان، والمسبعات في كردفان. وقد اهتم الحكم التركي بجباية الأموال وتجنيد الرجال، ولم يؤسس دولة حديثة إلا فيما يختص بالمقدار الذي يحقق أهدافه الأساسية. وفي حين اتسمت المهدية بأنها حركة شعبية دينية ساعدت على تنامي الإحساس الوطني، إلا أنها لم تتمكن من تغيير البنية المادية والاجتماعية لتلك المجتمعات التقليدية. ولذلك بقيت العصبية القبلية موجودة وكامنة في وجدان العناصر القبلية المختلفة. فأحياها الاستعمار البريطاني في إطار الإدارة الأهلية، ونقض سياسة المهدية التي حاولت استبدال القبلية بمفهوم الدعوة المهدية. وبعد الاستقلال تعاقبت الحكومات الوطنية (مدنية وعسكرية)، واهتمت بالتعليم والصحة، وصاحب ذلك زيادة في أعداد السكان ولكن لم يصاحب ذلك تحول في البنية الاجتماعية والاقتصادية. وظلت الزراعة التقليدية، والرعي المتنقل، يشكلان السمة الأساسية لتلك المجتمعات؛ بل انضمت قيادات الإدارة الأهلية إلى أحد الحزبين السائدين في البلاد؛ فنقلت التناقضات الحضرية إلى النسيج الاجتماعي في الريف، ما فاقم الفجوة الناتجة عن التنافس حول الموارد الطبيعية.

يتضح مما تقدم أن الخصوصية التاريخية الأولى تتركز في أن دارفور كانت موطناً لسلطنة قديمة، كانت أقوى في بعض الأحيان من سلطنة الفونج. وعندما غزا محمد علي باشا إقليم الفونج في عام 1821، انحسرت حملته دون غزو إقليم دارفور. ولم ينضم هذا الإقليم للحكم المصري التركي إلا في عام 1875. وهذا معناه أن الإقليم لم يخضع لتلك التجربة مثل سائر أقاليم السودان في وادي النيل وكردفان والبحر الأحمر. ومن ناحية أخرى، كان الإقليم من أوائل الأقاليم تحرراً في حقبة المهدية، حيث اكتمل تحريره عام 1882، بينما لم يكتمل تحرير إقليم الفونج إلا عام 1885. وعندما بدأت الدعوة المهدية في السودان، كانت دارفور من أكثر الأقاليم حماسة في الاستجابة للمهدية. وكان لها نصيب كبير في دعم وتأييد المهدية. وصار خليفة المهدي من ذلك الإقليم، ما جعل للدعوة مكانا خاصا في نفس أهل الإقليم، وجعلها حلقة الوصل التاريخية الوحيدة ما بين "سودان سنار" و"سودان الفاشر". وعندما خضع سودان وادي النيل وكردفان والبحر الأحمر لسيطرة الحكم البريطاني المصري في 1899 (الحكم الثنائي)، توجه السلطان علي دينار إلى الفاشر وأعاد تأسيس سلطنة الفور المستقلة، التي استمرت تحت قيادته إلى أن ضُمّ إقليمها إلى السودان في عام 1916. هذه الحقائق التاريخية عززتها عوامل جغرافية، فإقليم دارفور يجاور ثلاث دول إفريقية تشترك معه في الحدود وفي قبائل حدودية مشتركة. وهذه العوامل غذت خصوصية دارفور وغرست فيها حساسية جهوية ملموسة. وفي عام 1980 قرر نظام النميري ضم الإقليم لكردفان، فواجهه الإقليم بانتفاضة دارفور الشهيرة، وهي الروح التي رفضت تعيين حاكم من خارج الإقليم.

وبمرور الزمن تطور النزاع حول الموارد وساد الاضطراب الأمني (النهب المسلح والاشتباكات القبلية)، حتى بلغت تلك الاشتباكات -على سبيل المثال- في الفترة ما بين عامي 1968 ـ 1998 حوالي ثلاثين اقتتالاً. وعلى أثر ذلك أُخضع الإقليم، إضافة إلى غرب كردفان، إلى حالة الطوارئ، وتعليق الحكم المدني بغرب دارفور مع وضع الولاية تحت الحكم العسكري المباشر، بسبب الاقتتال بين المساليت ومجموعة من القبائل العربية. ويُذكر أنه بعد حل الإدارة الأهلية في عام 1970، دخلت مفاهيم إدارية وسياسية جديدة أدت إلى خلق حالة عدم الاستقرار القبلي بدارفور، ما جعل الصراع القبلي يتفجّر في دارفور بشكل متلاحق، لدرجة أصبح فيها خلو مجتمع دارفور من الاقتتال القبلي هو الاستثناء وليس القاعدة. وتعكس هذه الصورة أن المستويات التي وصلت إليها أعمال العنف قد سادت مجتمع دارفور. ومن المؤسف أن المؤشرات في هذا الصدد تدل على أن العنف قد يستمر في دورات متلاحقة، نسبة لوجود مناطق توتر قابلة لتصاعد العنف بها؛ فمثلا في ولاية جنوب دارفور وحدها ، تشمل دوائر التوتر كل من: التعايشة والسلامات، والفلاتة والمساليت (قريضة)، والهبانية وأبو الدرق، وبنى هلبة والقمر، والهبانية والمساليت (قريضة)، والمهادى والمساليت (ديتو).

ثانياً: التأثير الجغرافي والبيئي للأزمة

1. تأثير الموقع الجغرافي لإقليم دارفور (اُنظر خريطة السودان)

تقع دارفور بين خطي الطول 22 - 27 شرقاً وخطي العرض 10 - 16 شمالاً، وتُعد شمال دارفور امتداداً لمنطقة الساحل الأفريقي، الذي يمتد من السنغال حتى شرق السودان، يحده من الشمال والشمال الشرقي ولاية الشمالية، ومن الشرق والجنوب الشرقي ولايتي شمال وغرب بحر الغزال، وتشارك الحدود السياسية الدولية لليبيا من الشمال الغربي، أما في الغرب فتحده الحدود السياسية الدولية بجمهوريتي تشاد وأفريقيا الوسطى، بشريط حدودي يبلغ طوله 750 كم، يسير على خط طول 25 درجة شرقاً ثم يتبع بعد ذلك الفاصل المائي بين النيل ومجموعة شاري والكونغو.

وتبلغ مساحة إقليم دارفور حوالي 550 ألف كم2، وهي تعادل أكثر من 20% من مساحة السودان الكلية البالغة حوالي 5,2 مليون كم2، ويبلغ ارتفاع قمة جبل مرة 3071م، بمساحة كلية للمنطقة تبلغ 10.000 كم2 (ضعفي ونصف مساحة سويسرا) و تفصل هذه المنطقة المرتفعات الغربية عن المناطق المنخفضة في الشرق، والتي تغطيها طبقة الكثبان الرملية، مقارنة مع تربة جبل مرة التي تغطيها طبقة رسوبية سميكة من الرماد البركاني، الذي يصلح للزراعة، ويتسم بقابلية عالية للتعرية وتكوين الأخاديد.

أما الأمطار فهناك تباين في هطولها زماناً ومكاناً، حيث يهطل نصف معدل الأمطار السنوي في أغسطس، ويسقط نصف مقدار أمطار أغسطس خلال 5 أيام فقط بالتقريب، وهو ما يفرض على قطاعات من السكان ضرورة التحرك بأنعامهم إلى حيث مصادر المياه، وهو ما يؤدي إلى إمكان حدوث احتكاكات ومصادمات فيما بين السكان الدائمين والسكان الوافدين بحثاً عن مصادر المياه والمراعي، ويمكن إيجاز الهطول السنوي للأمطار على الإقليم وفقا لما يلي: الصحراء(شمال وادي هور) أقل من 80 مم، وشبه الصحراء (دار ميدوب شمال دار زغاوة) 80 - 200 مم، والتلال الرملية (ديار البرتي والزيادية وأراضي دار زغاوة الجبلية) 200 - 500 مم، والكثبان الرملية شرق دارفور 450 - 650 مم، وسهول غرب دارفور، هضبة جبل مرة 500 - 700 مم.

وتتدرج النباتات من شمال الإقليم إلى جنوبه من النباتات الشوكية في أقصى شمال الإقليم، حتى الغابات المدارية في أقصى الجنوب الغربي، وتمتاز تربة ونباتات المرتفعات بالتنوع نتيجة تنوع الحرارة والأمطار، ومن ثم يتداخل الرعاة مع المزارعين في مناطق كثيرة في الإقليم الأمر الذي يؤدي إلى الاحتكاك المتكرر، لاسيما بعد انقطاع سقوط الأمطار، أو في أثناء موجات الجفاف.

2. التركيب السكاني لإقليم دارفور

يزخر السودان بتنوع ثقافي وإثني ومناخي جعله يحتضن معظم المجموعات العرقية الموجودة في قارة أفريقيا، فهو يضم 518 مجموعة قبلية تتحدث بأكثر من 119 لغة. أما إقليم دارفور فيمكن الإشارة إلى أن تركيبته السكانية تنقسم إلى مجموعتين:

الأولى. ذوو الأصول السامية العربية، وهم من الرعاة الرحل.

والثانية. ذوو الأصول الحامية الأفريقية وهم من المزارعين الذين يعتمدون علي الزارعة التقليدية.

هنالك تقسيمات فرعية تشكل الهوية الاجتماعية والثقافية، وتعرف باسم الدار حيث نجد في الشمال دار زغاوة (الأبالة)، وفى الوسط دار الفور، وهم زراعيون، وفى الأجزاء الجنوبية الشرقية دار الرزيقات (البقارة). ولكل منطقة طابعها الإيكولوجي المحدد، وهذا التقسيم يشكل انقساما سلالياً ـ بيئياً ذا حساسية تكمن في طياتها بذور النزاع. ويمكن الإشارة إليها كما يلي:

أ. المنطقة الشمالية

المنطقة الشمالية أكثر عرضة للهشاشة الايكولوجية؛ إذ أنها تشكل امتداداً للصحراء الليبية وتقطنها قبائل البديات والزغاوة غير العربية، بالاشتراك مع الرزيقات والمحاميد وبني حسين (قبائل عربية)، وتُعَد هذه الهشاشة البيئية عنصرا مهماً لاندلاع النزاعات حول الموارد الشحيحة.

ب. المنطقة الوسطي

أما المنطقة الوسطي (منطقة جبل مرة) فهي ذات تربة خصبة، إضافة إلى غزارة الأمطار، وتوفر المياه السطحية والجوفية والموارد الطبيعية المتجددة. يقطن هذه المنطقة الفور والمساليت والبرتي والتاما والتنجر، وهم مزارعون تقليديون ويعيشون في وئام مع بعضهم، وتتسم بيئتهم بالاستقرار حتى في موسم الجفاف، وما يحدث من نزاعات فبسبب هجمات البقارة من الجنوب والأبالة من الشمال.

ج. المنطقة الجنوبية

يقطن المنطقة الجنوبية رعاة الأبقار من العرب الرحل، وتتسم المنطقة بالاستقرار بالمقارنة مع المنطقة الشمالية، وتقطنها قبائل الرزيقات والبانية وبنى هلبة والتعايشة والمسيرية. وبالرغم من استقرارها النسبي إلا أنها قد عانت من الجفاف خلال العقدين الماضيين، ما دفع بعض الرعاة للهجرة إلى المراكز الحضرية، أو نحو المناطق الوسطى، وهو الأمر الذي يقترن في الغالب بقدر من الاحتكاكات بين السكان المقيمين والوافدين، وهي تتدرج من احتكاكات فقط إلى نزاعات ثم إلى صراعات، ظلت تتراكم وتأخذ الطابع التحالفي بين عدد من القبائل والجماعات في ظل توسع نطاق الصراع، وفي إطار ضبط هذه الصراعات والحيلولة دون تناميها وتفاقمها تجد الحكومة نفسها، في كثير من الأحيان، مطالبة بأن تثبت وجودها بقوة سيطرتها وسيادتها، وحماية سيادتها ووحدتها وسلامتها الإقليمية من خطر مثل تلك النزاعات والصراعات.

تتفاوت المراجع والإحصائيات وتتباين في تقدير العدد الحقيقي للسكان في إقليم دارفور، فعلى حين تشير بعضها استناداً لإحصاءات الأمم المتحدة إلى أن عدد سكان دارفور بلغ 4،638،209 نسمة في عام 1993، موزعين على الولايات الثلاث كالتالي: الولاية الشمالية والتي تبلغ مساحتها 296420 كم2، يقطنها  1.155.872 نسمة وبكثافة تقدر بأقل من 4 نسمة في كم2، والولاية الجنوبية والتي تبلغ مساحتها 127300 كم2، يقطنها 2.152.499 نسمة وبكثافة تقدر بحوالي 17 نسمة في كم2، والولاية الغربية والتي تبلغ مساحتها 79460 كم2، يقطنها 1.329.838 نسمة وبكثافة تقدر بحوالي 14نسمة في كم2.

يذهب البعض الآخر إلى أن العدد الكلي لسكان دارفور يبلغ 6 مليون نسمة موزعين كالآتي: شمال دارفور 1.46 مليون نسمة، وغرب دارفور 1.78 مليون نسمة، وجنوب دارفور 2.67 مليون نسمة، وتشير بعض المراجع إلى أن عدد السكان في إقليم دارفور يبلغ حوالي 7 مليون نسمة في الوقت الراهن، وفي ظل غياب إحصاءات وتعدادات سكانية دقيقة يصعب التكهن بالعدد الفعلي للسكان في إقليم دارفور، ولكن يمكن الإشارة، بصفة عامة، إلى أن الكثافة السكانية في إقليم دارفور تعد منخفضة، حيث أن متوسطها 14 نسمة في كم2.

يرى البعض أن نسبة سكان الإقليم تعادل 22% تقريباً من سكان السودان ويسهم في الدخل القومي بأكثر من 25% خاصة صادرات الثروة الحيوانية والحبوب الزيتية. وتعيش في دارفور أكثر من 100 قبيلة رئيسية، من أشهرها الفور التي سميت المنطقة باسمها وهناك قبائل أخري عديدة، منها: الرزيقات، وهى قبيلة عربية، وتنقسم إلى رزيقات بقارة، وتعيش في جنوب الإقليم في منطقة الضعين ورزيقات "أبالة": رعاة الإبل، وهذا الفرع ينسب إليه "الجانجاويد" ، ومن القبائل أيضا الزغاوة والتنجر والميدوب والزيادية والبرتى والمساليت والتامة والفلاتة والقمر والمعاليا وبني هلبة والتعايشة والسلامات، وتتداخل جميع القبائل، وتتزاوج مع بعضها بعضاً، وكانت دارفور تمتاز بالتجانس، والتعايش السلمي بين مختلف قبائلها وأجناسها، وتحل المشكلات القبلية عبر الإدارة الأهلية، التي كانت لها القوة والسلطة قبل حلها وتسييسها من قبل السلطة.

3. تأثير الظواهر البيئية لإقليم دارفور

يتسبب التغير في الظواهر البيئية، الذي تتعرض له منطقة القرن منذ سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي ـ مثل الجفاف والتصحر ـ في كثير من التأثيرات الضارة، التي تنعكس على مجمل الأوضاع في المناطق المتضررة، وقد كان نصيب إقليم دارفور من هذا التغير البيئي ملموساً، وهو الأمر الذي دفع القبائل العربية في الشمال إلى النزوح جنوباً، للوصول إلى المناطق المروية بالأمطار؛ حيث مناطق إقامة القبائل الأفريقية، ما يؤدي إلى الاحتكاكات بين المزارعين المقيمين والرعاة الرحل.

لقد ظل الجفاف الطويل مستمراً منذ عام 1967، ما عدا فترات متفرقة، وتسبب ذلك في حراك اجتماعي واسع وسط الرعاة والمزارعين التقليديين، الذين يعتمدون اعتماداً كلياً على الهطول السنوي للأمطار. ويرى البعض أن هنالك علاقة تبادلية بين معدل سقوط الأمطار ونشوب النزاعات في شمال دارفور، حيث يلاحظ وجود ثلاث فترات جفاف طويلة إحداها حدثت في منتصف الستينيات وكانت خفيفة في حدتها، أما الأخريان فكانتا في 1972 - 1974 و1982 – 1984 واتسمتا بجفاف شديد. وصاحب فترات الجفاف اشتباكات مسلحة متفرقة، وكان أسوأها في منتصف الثمانينيات من القرن الماضي. وقد تسبب هذا الجفاف في إزالة الغطاء النباتي، وتدني قدرات الأرض، وفقدان أعداد كبيرة من الحيوانات المتبقية، وهجر التجار الاقتصاد الريفي المتداعي، وساد الفقر والجوع، وبدأت بوادر الانهيار الأمني، والتفكك والصدامات المسلحة. وبناء على ما سبق، فإن التوترات والصراعات القبلية، التي تطورت في السنوات الأخيرة، ترجع في الأساس إلى التضارب في استغلال الموارد، كما أن التدهور البيئي الكبير الذي لحق بإقليم دارفور منذ سبعينيات القرن العشرين، ترتب عليه تصحر مناطق واسعة من شمال دارفور، نتيجة للرعي الجائر، الذي سببه زيادة أعداد الحيوان وتناقص المناطق الرعوية.

ثالثاً: الأهمية الاقتصادية للإقليم والمطامع الدولية

يمتاز إقليم دارفور بموارده المتنوعة، فيوجد في ولاية دارفور الشمالية معادن، أهمها الحديد والرصاص والكروم، أما في ولاية جنوب دارفور فتوجد خامات من أهمها النحاس والحديد وكذلك البترول، هذا بالإضافة إلى وجود خامات الفوسفات والمنجنيز.

ومعظم هذه الخامات غير مستغلة، غير البترول الذي تعمل شركات أجنبية على استغلاله، وهذا ما يفسر محاولة الدول الفاعلة في المجتمع الدولي وحرصها ـ وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا، وغيرها من الدول ـ على تهميش دور الحكومة السودانية في الإقليم وزيادة تدخلها.

تزايد الاهتمام الدولي بالموارد المعدنية

يزخر إقليم دارفور بثروة معدنية كبيرة منها ما اكتشف بالفعل، ومنها ما هو في طور الاستكشاف، وتشير التقديرات الأولية أن الاحتياطيات ضخمة، ومنها:

أ. البترول‏‏

يثير بعض التعقيدات في الموقف‏؛‏ فامتيازات بترول الجنوب، حتى جبال النوبة، مازالت في يد شركات صينية وهندية وماليزية‏.‏ ولابد من ضمان عدم امتداد هؤلاء إلى بحيرة البترول، التي يجري الحديث عنها في الغرب السوداني‏.‏ ومن الصعب الإقرار بأن اضطراب المنطقة، أو تنامي التمردات داخلها هي التي تضمن التدخل لحماية الاستثمارات المتوقعة‏،‏ بل إن الاستقرار هو المطلوب لمصلحة الاستثمار‏،‏ وفي هذا الصدد يشير البعض إلى أن الأمريكيين ساعدوا الرئيس الأسبق نميري ليعطي سلاحا أمريكيا لقبائل المورلي ‏(جنجاويد الجنوب عام‏1980)‏ لمهاجمة قبائل الدينكا والنوير لضمان الاستقرار في منطقة استثمار شركة شيفرون في البترول بهذه المنطقة الجنوبية‏.‏ ولعل إثارة حفيظة الدينكا والنوير بهذا الشكل،‏ بمعرفة النميري أو الأمريكيين،‏ هي التي أسهمت في انتماء هؤلاء للحركة الشعبية لتحرير السودان بهذه القوة ضمن المسألة الجنوبية عموماً‏.‏

ثمة حاجة إذن لتهيئة ظروف ملائمة للانفراد ببترول الغرب‏،‏ وتهيئة الظروف الاجتماعية والإنسانية لذلك أيضا‏.‏ لذلك فدخول الأمريكيين مدعومين بالبريطانيين والاستراليين‏،‏ وفي ظل حشد وتعبئة دولية وإنسانية هذه المرة‏،‏ يُعد عملا دبلوماسيا ناجحا في الظروف الأمريكية الحالية‏.‏ بل موقفاً مبكراً من منافسات دولية قوية في المنطقة تمثلها فرنسا صاحبة النفوذ في تشاد ومنطقة الفرانكفون المجاورة‏ (وقد بدأت بالفعل الزحف إلي الحدود السودانية من تشاد‏).‏ ولذلك تدفع تلك المظاهر والأعراض الناتجة عن أزمة دارفور إلى الاعتقاد بأن هناك محاولة أمريكية ـ أوروبية لتقسيم المصالح في السودان عموماً، وفي دارفور على وجه الخصوص.‏ وفي ظل هذا الوضع الصعب، يحاول السودان الخروج من هذا المأزق، كما يحاول التعامل مع التناقضات ذات الصلة بتلك المصالح والمطامع الأورو ـ أمريكية. ولكن السؤال هو: هل بمقدور السودان أن يظل بمفرده في مواجهة تلك الضغوط والمطامع الأجنبية؟‏.‏

ب. اليورانيوم‏

تعود الثروات المعدنية الإستراتيجية في أنحاء إفريقيا لتحتل موقعا في السياسات الدولية، كنا نظن أنه مضي مع المرحلة الاستعمارية التقليدية‏.‏ وبوصفها مواد تقليدية أيضا لن تنافس التكنولوجيا العليا والسوفت وير‏...‏ إلخ‏.‏ ولكن ها هو اليورانيوم يهدد وجوده بلاد السودان من دارفور إلى إفريقيا الوسطي ومالي والنيجر‏.‏ وقد فاجأ رئيس النيجر ورئيس وزرائها السابق بل وزعيم المعارضة في النيجر المجتمع الدولي بشن حملة من باريس أوائل يوليه ‏2004‏ على الإدارة الأمريكية، التي زورت‏ مراسلات بين النيجر وصدام حسين لإثبات استعمال الأخير ليورانيوم النيجر في بناء أسلحة التدمير الشامل‏،‏ بينما لم تحدث الواقعتان‏.‏ وإذا كانت النيجر هي ثالثة دولة منتجة لليورانيوم في العالم، وتنتج ما يقارب نصف استهلاكه‏،‏ وهي مجاورة لمنتجين أقل مثل إفريقيا الوسطي وتشاد‏،‏ إذن فالواقع الاستكشافي للمنطقة يشير إلى أنها منطقة إستراتيجية جديدة، تحقق ما يشاع عن منافستها للشرق الأوسط، إذا أضيف إليها بترول تشاد وغينيا الاستوائية وساوتومي وبرنسيب‏ والسودان‏.