إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / موضوعات سياسية عسكرية / مشكلة دارفور، وتداعياتها المحلية والإقليمية والعالمية






مناطق اللاجئين
إقليم دارفور
حدود إقليم دارفور



الفصل الأول

المبحث الخامس

تطورات الأزمة

تعاني دارفور، منذ سنوات طويلة، من الإهمال التنموي، وضعف الخدمات والمرافق، إن لم يكن انعدامها في العديد من مناطق الإقليم، ورغم حدوث بعض التقدم في عهد نظام الإنقاذ الحالي، إلا أن هذا لم يكن كافياً، ولم يلب طموحات أبناء الإقليم الذين تأثروا كثيراً بموجات التصحر والجفاف، وازدياد وتيرة الصراعات القبلية، وما ارتبط بها من ظواهر النهب المسلح والانفلات الأمني، وقد اتخذت الأزمة مساراً جديداً بعدما تطور النهب المسلح والصدامات القبلية في الإقليم إلى نوع من التحالفات الإثنية بين قبيلتي الزغاوة والفور ضد بعض القبائل العربية، وتحول هذا التحالف إلى نواة حركة سياسية جديدة هي حركة تحرير دارفور، التي ظهرت أول منشوراتها، في 19 يوليه 2002، بعد أن تحولت هذه المجموعة المقاتلة الصغيرة ـ التي نشأت أساساً بغرض الدفاع ـ إلى الهجوم على مؤسسات الدولة ورموزها في دارفور، ومنها الهجوم على وحدات القوات المسلحة والمقار الحكومية والأجهزة الحكومية والبنوك وبعض المشروعات التي تديرها الدولة.

أولاً: مراحل تطور الصراع في دارفور

1 جذور الصراع في دارفور

يري العديد من أبناء دارفور أن الشرارة لهذا الصراع الأخير قد انطلقت عام 1986 في عهد حكومة رئيس الوزراء السابق، الصادق المهدي، حينما تجمعت بعض القبائل العربية تحت مسمي التجمع العربي، بدعم من حزب الأمة، في مواجهة قبيلة الفور، التي يدعمها الحزب الاتحادي الديموقراطي الشريك في الائتلاف الحكومي. وقد ظهر هذا الصراع في الحرب الأهلية بين الفور وبعض القبائل العربية في مناطق جبل مرة وجنوب وغرب دارفور، والتي راح ضحيتها أكثر من 15 ألف مواطن، وبلغت خسائرها أكثر من 20 مليون دولار. وقد استطاعت حكومة الإنقاذ إجبار الطرفين للتوصل إلى اتفاقية صلح قبلي هش في أيامها الأولى، إلا أن الصراعات القبلية تواصلت بعد عام 1993 في مختلف مناطق دارفور الشمالية والغربية بين القبائل العربية والأفريقية خاصة قبائل الفور والمساليت والزغاوة.

ولعبت العوامل السياسية دوراً مهماً في إذكاء هذه الصراعات، التي كانت في الأساس صراعاً حول المرعي والماء، وساهمت الحكومة المركزية في تأجيجها بعد تطبيق سياسة تقسيم الولايات بإنشاء إدارات أهلية جديدة للقبائل الرعوية في أراضى القبائل المستقرة، علماً بأن أغلب هذه القبائل وافدة من تشاد، وألغت الحكومة بمقتضى ذلك الإدارات الأهلية القديمة.

نتيجة لذلك، اندلع الصراع المسلح بين قبيلة المساليت الأفريقية وبعض القبائل العربية، وشهدت المنطقة نتيجة لهذه التحولات إحراقاً للقرى، وتشريداً للمواطنين. بيد أن الصراع لم يتطور إلى صراع سياسي عسكري وتمرد مسلح إلا بعد قيام مجموعة مسلحة من أبناء الفور الذين تحالفوا مع الزغاوة باحتلال مدينة قولو، عاصمة محافظة جبل مرة بغرب دارفور، في 19 يوليه 2002، حيث أعلن، لأول مرة، عن الحركة المسلحة، وتوزيع منشورات سياسية باسم جيش تحرير دارفور، وحددت أهداف الحركة الجديدة في تحرير الإقليم من سيطرة الشماليين بحجة مساهمتهم في تردي الخدمات وتهميش المنطقة. وفي عام 2003، تحولت دارفور إلى منطقة عمليات عسكرية تماماً لمواجهة التحالف الجديد، خاصة وأن الحكومة بدأت في التنبه لخطورة الادعاءات التي بدأت تنشر من أن مسلحي الزغاوة يسعون لإقامة "دولة الزغاوة الكبرى"، والتي تضم دارفور وتشاد وأجزاء من ليبيا والنيجر.

استفاد التجمع العربي من هذا الادعاء في التقرب من الحكومة، والتنسيق معها لمواجهة التهديد الأمني الجديد، وقد تزامن ذلك مع انضمام أعداد كبيرة من أبناء الزغاوة من الإسلاميين إلى الحركة المسلحة والتي غيرت اسمها إلى "حركة تحرير السودان" وإلى حركة العدالة والمساواة والتي أسسها القيادي الإسلامي السابق الدكتور خليل إبراهيم. وأصبحت للحركتين قوات منظمة، حيث تملك الحركة الشعبية أكثر من 16 ألف جندي، فيما تملك حركة العدالة حوالي 9 آلاف جندي، كما أصبح لهما برنامج وخطاب سياسي، يطالب بتحقيق المساواة في السلطة والثروة لجميع أبناء المناطق المهمشة في السودان.

لم يكن الاستنفار الشعبي والتنسيق بين الحكومة وبعض القبائل العربية بشمال وغرب دارفور، والتي لها نفوذ على مستوى الحكومة المركزية بالخرطوم، واضحاً إلا بعد أحداث الفاشر، في أبريل 2003، عندما استطاع المتمردون تدمير 6 طائرات عسكرية في مطار المدينة، واختطاف قائد عسكري برتبة لواء. وأدت هذه الأحداث إلى لفت انتباه العالم والرأي العام المحلي داخل السودان، الذي ربما لم يسمع من قبل بالتمرد المسلح. على الرغم من أن المتمردين كانوا قد سيطروا على مناطق جبل مرة وأجزاء واسعة من مناطق الزغاوة في شمال الإقليم على الحدود الشمالية الغربية مع تشاد وليبيا، وأدت العملية، محلياً، إلى عدة نتائج سلبية، حيث أوقفت الحكومة المفاوضات التي كان يجريها والي شمال دارفور، الفريق إبراهيم سليمان، لحل القضية سلمياً بالاستجابة للمطالب الشعبية.

2. توظيف الجانجويد في الصراع  

بدأت الحكومة في التعبئة لسحق التمرد عسكرياً، واستنفرت القبائل المختلفة لمواجهة تطورات الأحداث، التي كانت تصفها قبل ذلك بعمليات قطاع الطرق والنهب، واستفادت من مليشيات القبائل العربية في منطقة جبل مرة التي كانت تقاتل الفور والزغاوة تحت اسم" الجانجويد". واعترفت بها رسمياً ـ حسب ما تقول المعارضة في دارفور ـ وضمتها لقوات دفاع شعبي التي تعامل كقوات نظامية، كما استفادت من الوجود المسلح لبعض العناصر الأجنبية التي دخلت السودان عبر الحدود مع ليبيا ووصلت إلى مناطق وادي صالح بغرب دارفور وأغلبها من العناصر العربية التي كانت تستهدف تشاد في الأساس. وتكاتفت القبائل العربية بشمال وغرب دارفور بعد أن وفرت لها الحكومة السلاح والأموال ـ حسب مصادر المعارضة ـ وظهر ما يعرف بمليشيات الجانجويد التي تحولت من مجموعة صغيرة كانت تحارب في مناطق جبل مرة للاستحواذ على نفوذ محلي إلى مليشيات منظمة ومدربة تابعة للجيش السوداني، تملك أسلحة حديثة، وانتشرت في كل مناطق الإقليم الشمالي والغربي.

كان لجوء الحكومة لمليشيات "الجانجويد" واستخدامها ذراعاً عسكرياً للقتال في دارفور لعدة اعتبارات منها أنه لا يمكنها استنفار الدفاع الشعبي لاعتبار ديني حيث إن الدفاع الشعبي هدفها جهادي، وربما تكون مليشيات الجانجويد قد تحولت من كونها أداة لقتال المتمردين إلى أداة هدم ضد المواطنين العزل، واستغلت الأوضاع لصالحها، وقد ترتب على عملياتها الوضع المأساوي الذي تعيشه دارفور حالياً والذي لم تعرف له، عبر تاريخها الطويل، مثيلاً حيث يهاجر السودانيون، لأول مرة، إلى تشاد بدلاً من استقبال السودان للاجئين التشاديين، كما هو معروف عادة.

وجهت الحكومة والجانجويد عملياتهما -كما تقول المعارضة- ضد المواطنين المدنيين، وتسببت هذه العمليات في نزوح أكثر من مليون مواطن من قراهم، هرب منهم حوالي 200 ألف إلى تشاد، وتأثر أكثر من مليونين آخرين، وقتل أكثر من 50 ألف مواطن، وأحرق أكثر من 3000 قرية ومدينة في ولايات دارفور الثلاث، ومن أشهرها قرى كورما وطويلة، القريبتان من الفاشر، كما تسببت في خلخلة مجتمع دارفور المتماسك والمتسامح، وانتشر السلاح وسط القبائل الساعية لحماية أفرادها، وتسببت عمليات الجانجويد العشوائية في استعداء جميع سكان دارفور من القبائل غير المتورطة معها لمصلحة المتمردين، ما جعلهم هدفاً للغارات الجوية من الطيران العسكري الحكومي والجانجويد. وسحبت الحكومة قواتها العسكرية إلى خارج المدن الرئيسية بدارفور، ما منح الجانجويد والمتمردين فرصة لاستهداف الآمنين. وقد مارس المتمردون أيضاً عمليات البطش والتعذيب ضد المواطنين المعارضين لهم من هذه القبائل الأفريقية، وشكل المتمردون محاكم صورية لمحاكمة المواطنين، وفرضوا ضرائب وإتاوات عليهم، واختطفوا زعماء القبائل وموظفين حكوميين وسيارات المواطنين، وبذلك أصبح مواطنو القرى في دارفور هدفاً لعمليات الجانجويد والمتمردين معاً.

يرى بعض المحللين الدوليين أنه في أعقاب سلسة من انتصارات التمرد، في الأشهر القليلة الأولي من انطلاقه، أطلقت الحكومة مليشيات الجانجويد من عقالها، بسند من قواتها النظامية، في وجه السكان المدنيين، ممن يعتقد بأنهم يساندون التمرد. وعلى الرغم من أن الإسلام ينتظم داخل إقليم دارفور، إلا أن الحكومة استطاعت أن تناور بسياسة التفرقة الإثنية بين المجتمعات العربية والأفريقية. وأدي هذا إلى نزوح جماعي، وقتل دون تمييز ونهب واغتصاب واسع النطاق، وكل هذا جزء من جهد متعمد، لإخلاء مناطق أساسية من الإقليم من أولئك الذين يشك في أنهم يضمرون تعاطفاً مع التمرد. وأن الحكومة استهدفت الجماعات المنحدرة من أصول أفريقية، بينما ظلت القرى المجاورة، التي تسكنها جماعات منحدرة من أصول عربية، بمأمن من ممارسات الحكومة السودانية. وترتب على هذه السياسة التمييزية بين أبناء الإقليم الواحد أن اختل التوازن الذي كان قائماً بين السكان الذين يقطنونه.

على الرغم من محاولات الحكومة إنكار علاقاتها بالجانجويد، إلا أن كل القرائن -حسب أوساط المعارضة- تدل على وجود هذه العلاقة والتنسيق، بل أن الجانجويد، في نظر مواطني دارفور، الوليد الشرعي لحكومة الإنقاذ، التي استفادت من حرب قبلية صغيرة كان يمكن حلها، إلى إنشاء كيان عسكري أدى إلى خلخلة النسيج الاجتماعي لسكان دارفور. وعلى الرغم من أن الجانجويد تتألف، في الغالب، من القبائل العربية إلا أن القبائل العربية الكبرى، بجنوب دارفور، مثل: الرزيقات والبنى هلبة والهبانية والتعايشة والمعاليا لم تشارك فيها، حيث أن أغلب المشاركين من القبائل العربية بشمال وغرب دارفور من رعاة الإبل، الذين فقدوا مواشيهم بسبب الجفاف والتصحر، وانضمت إليهم المجموعات المهاجرة من تشاد، والتي لها أطماع استيطانية في دارفور، بسبب فقدانها أراضيها في تشاد.

ثانياً. تحالف عناصر المعارضة المتمردة

اندلع الصراع الحالي في دارفور عندما هاجمت، مجموعتي التمرد اللتان يربطهما تحالف هش، وهما جيش/حركة تحرير السودان، وحركة العدل والمساواة، المنشآت العسكرية الحكومية، في مطلع عام 2003.

تضم الأسباب الأساسية، التي تغذي التمرد التهميش الاقتصادي والسياسي، والتخلف التنموي والسياسة الحكومية القائمة منذ أمد طويل، والمتمثلة في مساندة مليشيات قبائل دارفور الرعوية العربية وتسليحها في وجه المجتمعات الأفريقية التي تمتهن الزراعة. ويعكس الوضع في دارفور ديناميكية الصراعات الأخرى في السودان، طرف يري نفسه ضحية للتمييز في مواجهة مركز في الخرطوم يسيطر على مراكز السياسة والاقتصاد. وطرف يرى أن التقدم الذي أحرز في محادثات السلام، بين الحكومة وحركة التمرد الأساسية في البلاد، وخصوصاً الحركة/ الجيش الشعبي لتحرير السودان في الجنوب، قد أسهم في اندلاع صراع دارفور، على اعتبار أن مجموعات دارفور تخشي أن تفقد فعاليتها إذا عقدت صفقة بين الشمال والجنوب، بعيداً عن الجماعات الأخرى داخل أقاليم الدولة المختلفة.

لقد مثل الهجوم الذي قامت به حركة تحرير السودان على مدينة الفاشر، في 25 أبريل 2003، منعطفاً مهماً في مسار الأزمة من مجرد كونها أزمة محلية داخل الإقليم، وذات أبعاد قبلية وإثنية يمكن التعامل معها في الإطار الداخلي، إلى أزمة سياسية واسعة النطاق، ذات أبعاد إقليمية ودولية آخذة في التزايد والتعقد بمرور الوقت، وزاد من حدتها ما استتبعها من حوادث على المستويَين: الإنساني والاجتماعي، في دارفور، بعد حدوث أزمة اللاجئين والنازحين والمشردين (أكثر من 1.5 مليون نازح)، والاتهامات بالإبادة الجماعية، وصدور عدة قرارات من مجلس الأمن، وتكوين لجنة تحقيق دولية، فيما يسمى بالانتهاكات الواسعة للقانون الإنساني الدولي وجرائم الحرب، حتى أصبحت أزمة دارفور تشكل تهديداً لاستقرار الدولة في السودان وتماسكها، بحيث لم يعد في الإمكان تسوية الأزمة أو تجاوزها من دون إعادة صياغة علاقة دارفور بمركز السلطة في الخرطوم، ودون الوصول إلى تفاهمات تمتد إلى إعادة النظر في هيكل السلطة، وتوزيع الموارد على المستوى القومي، بل وإعادة النظر في العديد من القضايا الجوهرية الأخرى المتعلقة بالهوية وطبيعة الدولة ونظامها السياسي.

رغم الجهود العديدة المبذولة لاحتواء الأزمة من خلال الآليات التقليدية، المتمثلة في المؤتمرات القبلية، وجهود الوساطة من زعماء العشائر والقادة المحليين، إلا أن هذه الجهود لم تسفر عن تحقيق نجاح يذكر، بسبب إعراض حركة تحرير دارفور عن التعامل والتفاعل الإيجابي مع جهود تسوية الأزمة، بل وتحركها باتجاه تغيير اسم الحركة إلى حركة تحرير السودان، وتبنيها لمجموعة من الأهداف التي تبنتها الحركة الشعبية لتحرير السودان من قبل، ومنها إنهاء التهميش من خلال معادلة جديدة لقسمة السلطة والثروة، واعتماد العلمانية والمساواة دون التقيد بالأصول العرقية/ الإثنية أو الدينية. ومن ناحية أخرى، فقد كانت حركة العدالة والمساواة تصر على المضي في الصراع المسلح من دون إبداء أي رغبة في التفاوض الجاد، أو بذل الجهود لتسوية الأزمة سلمياً، وظهر هذا واضحاً من خلال عدم مشاركتها في المراحل الأولى من الجهود السياسية لتسوية الأزمة، وإصرار قادتها على أن هدفهم هو إطاحة نظام الإنقاذ القائم، واستبدال نظام فيدرالي على أسس جديدة به.

في الوقت الذي لم تتضح فيه بعد الأبعاد الحقيقية للروابط الدقيقة بين الجيش الشعبي لتحرير السودان ومتمردي دارفور، تبدو هناك، على الأقل، روابط تكتيكية مهمة، تبين للجيش الشعبي لتحرير السودان أنه كلما اتسع التمرد ليشمل أجزاء أخري من البلاد تحسن موقفه، ومن هنا كان تشجيعه لمتمردي دارفور وسيلة لزيادة الضغط على الحكومة، كي تخلص إلى صفقة أكثر محاباة له في نيفاشا. تعزز هذه الروابط من خلاصة مفادها أن ليس من الممكن عزل حالة دارفور من مفاوضات نيفاشا، التي تيسر لها الوكالة الإقليمية للتنمية الحكومية-الإيجاد، في الثامن من أبريل 2004، بمدينة نجامينا. وكانت معالجة التفاوض فقيرة، عموماً، كما سيأتي بعد، ولا يزال وقف إطلاق النار بحاجة إلى أن ينزل على أرض الواقع، ويرجع هذا، أساساً، لفشل الحكومة في أن تلجم الجانجويد، كما نُصّ عليه في الاتفاقية.

على الرغم من العيوب التي شابت الاتفاقية إلا أنها قدمت إطاراً مفيداً لوقف العدائيات ميدانياً، وسهلت من تسليم العون الإنساني الذي يحتاجه النازحون اليائسون، وأقامت منبراً بتسيير عالمي، يتسم بالصدقية، ليتعامل مع الأسباب الأساسية للتمرد. ولكن يجب تطبيقها والبدء بنواحيها الإنسانية، والتي هي، حرفياً، مسألة حياة أو موت لمئات الآلاف، خلال الأشهر القليلة القادمة.

من المرجح أن يسوء الوضع الإنساني كثيراً قبل أن يتحسن. ولذلك يجب أن يعمل المجتمع الدولي، بحسم، للحيلولة دون حدوث مجاعة كبيرة ومميتة، ما دامت الخرطوم قد تنازلت، في الواقع، عن مسؤوليتها في تلبية حاجات مليون شخص من مواطنيها النازحين داخلياً. ولم تقف المأساة عند السكان المدنيين الذين هجمت عليهم الحكومة ومليشياتها بهدف إجبارهم على مغادرة أراضيهم، ودمرت أنظمة الري ومخازن الأطعمة عن عمد حتى لا يتمكنوا من العودة إلى قراهم المحروقة؛ بل إن معظم النازحين من دون مأوي، ودون أن يتيسر لهم إمداد منتظم من المياه والطعام والخدمات الصحية. لا تمتلك القرى المضيفة القدرة لإيوائهم بأعدادهم الكبيرة. وعلى الرغم من اتفاقية وقف إطلاق النار يستمر الجانجويد في الهجوم على النازحين الذين أغلبهم من الفور والمساليت والزغاوة، الذين يرجعون لأصول أفريقية.

إن الوضع في مدينة كتم "محافظة كتم في ولاية شمال دارفور" هي نموذج لما تقدم. فقد كان هناك، في منتصف مايو 2004، ما يقارب 124 ألف نازح، من المناطق المحيطة، يعتمدون على 20 ألفاً، هم جملة سكان المدينة. ويقع أحد أكبر معسكرات الجانجويد في شمال دارفور بالقرب من "كتم"، وهو الذي انطلقت منه عمليات الهجوم على النازحين. وتعلن الحكومة، في مواجهة القلق العالمي المتصاعد، أنها تحاول إرجاع النازحين إلى مناطقهم قبل هطول الأمطار، وفي الوقت ذاته، تقوم الحكومة بدمج الجانجويد في قواتها الرسمية، عوضاً عن تحييدهم (كما تشترط اتفاقية وقف إطلاق النار). وقد وثق تقرير للأمم المتحدة الأحوال المروعة للنازحين في "كيلك" التي تقع في ولاية جنوب دارفور، حيث يقوم الجانجويد والشرطة المعنيين باحتجاز النازحين رهائن بدلاً من حمايتهم، ويجوعونهم عن عمد. كما أن اللاجئين، على امتداد دارفور، مازالوا يرفضون المساعدات الإنسانية، لخوفهم من أن يصبحوا هدفاً لاحقاً لهجمات الجانجويد، وذلك على حد زعم التقرير الأممي.

أصدر جيش تحرير السودان، في النصف الأول من مايو 2004، عدة تصريحات، مفادها أنه يرفض السماح بدخول أي إغاثة إنسانية إلى المناطق التي يسيطر عليها، أو التي تجئ عبر المناطق التي تسيطر عليها الحكومة، التي تتخذ منها وكالات الأمم المتحدة والمنظمات الدولية غير الحكومية قواعد لعملها. ويتخوف جيش تحرير السودان من أن تستخدم الحكومة مثل هذه الإغاثة الإنسانية غطاء لتسلل القوات ورجال المخابرات السّريون والذخيرة، ويشعر بالقلق، أيضاً، من أن الخرطوم تسعي لكسب ولاء السكان المدنيين، بجعلهم يعتمدون على الحكومة في الحصول على مواد الإغاثة الإنسانية. إذا نفذ جيش تحرير السودان مثل هذا الحظر، فبوسع الحكومة أن تجادل مقنعة بأن مسؤولية المعاناة الناتجة تقع، جزئياً، على جيش تحرير السودان". وقد اتهمت الحكومة جيش تحرير السودان بالهجوم على قافلة للإغاثة الإنسانية، في أواخر أبريل 2004، وقتل أحد قادة الزغاوة التقليديين، عبد الرحمن محمدين الذي كان يقود القافلة. من جانبه أصر جيش تحرير السودان على أن مليشيات الجانجويد هي المسؤولة عن مقتله، غير أن قوات الأمن الحكومية كانت ترافق القافلة، وهي، من ثَم، أصبحت هدفاً مشروعاً. وهذا ما يظهر عقبة أخرى في طريق وصول العون الإنساني إلى دارفور، لحل هذه المشكلة، على نحو عاجل، يجب على القوات الحكومية ألا ترافق قوافل الإغاثة المتوجهة إلى المناطق التي يسيطر عليها متمردو دارفور، كما يجب على المتمردين السماح بدخول الإغاثة الإنسانية، التي تجئ عبر المناطق التي تسيطر عليها الحكومة، شريطة ألا تصحبها قوات حكومية.

صرحت الخرطوم، مراراً، بالتزامها بتيسير المجهودات الإنسانية الدولية الرامية لمساعدة المتأثرين بالحرب، غير أنها عملت بإصرار على تعويق أو تأخير انتشار العاملين الإنسانيين في دارفور.

تحسن تقنياً الوصول إلى المتأثرين بالحرب فقد ورد في تقرير الأمم المتحدة "ملامح الاحتياجات الإنسانية"، بتاريخ 16 مايو 2004، بأنه يمكن الوصول إلى 77% من الأشخاص النازحين داخلياً في دارفور. ويعني هذا أن الأمم المتحدة قد أعطت الضوء الأخضر بالسفر إلى المناطق التي فيها أولئك النازحون. وعلى الرغم من ذلك تبقي هذه النسبة غير ذات صلة بقدرة الأمم المتحدة والأطراف الإنسانية العاملة الأخرى على تقديم المعونات الإنسانية، ما دامت العقبة الأساسية تتمثل في أن عدد العاملين الميدانيين الذين يواكبون تلبية حاجات السكان المتأثرين بالحرب والتي تشمل الرعاية الصحية، والمياه، والمأوي غير كافٍ، وهذا الافتقار للقدرة نتج إلى حد كبير عن الأثر التراكمي لأشهر من التعويق من قبل السلطات في الخرطوم.

مازالت الخرطوم تعطل وصول البعثات إلى دارفور، بمناورتها في منح تأشيرات الدخول وتصريحات السفر للعاملين الإضافيين، الذين تحتاجهم المنظمات الدولية، في الوقت الذي تنسب فيه الفضل لنفسها في تحسن الوصول إلى المتأثرين بالحرب. فعلى سبيل المثال أبعدت، في منتصف مايو 2004، الضابط الأرفع لمكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشئون الإنسانية (OCHA)، وهي الوكالة المنوط بها تنسيق العمل الإنساني لوكالات الأمم المتحدة كافة ومعظم المانحين المستقلين من مدينة نيلا، عاصمة ولاية جنوب دارفور، من دون أن تقدم تفسيراً لذلك. وقد حذر مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشئون الإنسانية، أيضاً، بأن إصرار تعطيل الحكومة لأذونات سفر موظفي الوكالة، قد يفضي إلى ألا يتبقى بمطلع يونيه 2004 أي من موظفيها الأجانب بدارفور، وربما تكشف، مثل هذه الحوادث، الحاجة إلى عمل دولي منسق على مستوى عالٍ، يحمل الخرطوم على الوفاء بالتزاماتها.

أعلن وزير الخارجية، مصطفي عثمان إسماعيل، في 20 مايو 2004، أن الحكومة ستعمل من أجل أن يحصل موظفو العون الإنساني على تصريحات خاصة للدخول إلى إقليم دارفور، وقال إن السفارات ستبدأ في إصدار تأشيرات دخول عادية، في خلال ثمانٍ وأربعين ساعة. إن هذا إذا تم، فسيكون تغييراً يلقى الترحيب، ولكنه بحاجة إلى أن يربط بحرية التنقل داخل إقليم دارفور، إذا أريد له تأثير عملي كبير. وتجدر الإشارة إلى أن افتقار العاملين الإنسانيين للسلامة بالدرجة الأولي، بسبب نشاطات الجانجويد، يشكل قلقاً مماثلاً. فقد هاجم الجانجويد، في 12 مايو 2004، سائقاً لإحدى شاحنات منظمة الغذاء العالمي (WFP)، وهي تحمل مواد غذائية، ولعل الفشل في التصدي لهذه الحادثة وغيرها من الحوادث المشابهة، التي حدثت، يطرح شكوكاً جادة حول مستقبل العون الإنساني. لذلك، يجب أن تُلزَم الخرطوم بضمان سلامة العاملين الإنسانيين ومواد الإغاثة، التي ستُحقق تقدماً طيباً بإخضاع الجانجويد للسيطرة في هذا الاتجاه، إضافة إلى أنها ستخلق، أيضاً، بيئة أمنة لدرجة تجعل النازحين واللاجئين يحسون بالأمن في طريق عودتهم إلى ديارهم.

يرى البعض أنه يجب على المجتمع الدولي، إذا استمرت الحكومة في المناورة فيما يتصل بالعون الإنساني، لإعاقة وصول المنظمات الدولية إلى ضحايا النزاع ـ أن يولي اهتماماً جدياً لتطوير بدائل لا تعتمد على حكومة الخرطوم، ويمكن أن تشمل هذه البدائل العمليات العابرة للحدود بالبر أو الجو من تشاد أو ليبيا، أو حتى من المناطق التي تسيطر عليها الحركة الشعبية لتحرير السودان. وإذا تسبب استمرار أي من الحكومة أو المتمردين في تعويق هذه المبادرات لتكثيف العمل الإنساني، فإن خيارَي المجتمع الدولي المتبقيَين سيكونان: إما السماح بالموت المحتم لأعداد كبيرة جداً، أو استخدام القوة.

ثالثاً: مواقف القوى السياسية من تطورات الأزمة

تعيد الأحداث الجارية في إقليم دارفور طرح الأزمة السياسية الشاملة في السودان بصورة أكثر حدة، في وقت يتابع فيه كل المجتمع الدولي، عن كثب، ما يجري هناك. فالصراع في دارفور عنوان واحد لأحد أوجه أزمة مترابطة. ولخطورة الوضع في دارفور، وما قد يتمخض عنه من عواقب تمس أمن كل السودان، فقد أظهرت القوى السياسية السودانية ـ على اختلافها ـ اهتماماً كبيراً بما يدور هناك. ومن المؤكد أن القضية، التي كانت تطرح نفسها على خلفية الصراع القبلي التقليدية على الماء والمرعى، ومع تراكم أخطاء حكومة الخرطوم في التعاطي معها، وفي ظل جاذبية مغرية أفرزتها اتفاقية السلام بينها وبين الحركة الشعبية لتحرير السودان ـ أصبحت تطرح بوصفها قضية سياسية إثنية معقدة.

فالقضية أصبحت مطروحة في جانب منها قضية صدام عرقي وقبلي مسلح. وتحت وطأة التدخل السياسي والعسكري من جانب الدولة اتخذت شكلاً من أشكال العنف، ومن ثَم الاستقطاب الحاد بين العناصر الإثنية المكونة للإقليم، مما بات يهدد بتفجر الموقف في كل دارفور. الاستقطاب الحاد والعمل المسلح من جانب الدولة قاد إلى بروز كيانات سياسية مسلحة ممثلة في تنظيمين رئيسيين هما حركة تحرير السودان وحركة العدل والمساواة. تحولت القضية، في محصلة أولية، لما يجري هناك، من عرقية/ إثنية إلى حركة سياسية، ومن قضية داخلية سودانية إلى قضية إقليمية ودولية. وسوف ينحصر تناول القضية عند مواقف القوى السياسية الرئيسية في السودان، والتي أبدت قلقاً وانزعاجاً كبيراً من أحداث دارفور، انعكس في الحيز الذي شغلته الأحداث هناك في أدبياتها وفي مؤتمراتها، سواء كان ذلك التجمع الوطني الذي يجمع كل الطيف السياسي، أو حزب الأمة بقيادة الصادق المهدي، أو المؤتمر الشعبي الذي يقوده د. حسن الترابي.

1. موقف التجمع الوطني الديموقراطي من الأزمة

خلال اجتماع هيئة القيادة العليا للتجمع الوطني الديمقراطي الذي يضم القوى المعارضة للحكومة السودانية، احتلت قضية دارفور جانباً ضمن أربع نقاط بحثها الاجتماع الذي عقد في أسمرا (14 - 22 يوليه 2005). وقد شاركت في هذا الاجتماع حركة تحرير السودان من دارفور، لأول مرة، في اجتماعات التجمع. وعند عرضه لبروتوكولات نيفاشا، وهي النقطة الأولى المدرجة في أعمال الاجتماع، توقف قائد الحركة الشعبية جون جارانج معبراً عن أسفه للأوضاع المتردية في دارفور، وداعياً إلى "تسوية سياسية عادلة وعاجلة للأزمة". وأشار جارانج، في ذات الوقت، إلى أن اتفاق نيفاشا قد نجح في تحديد المعالم الرئيسية لأهداف التجمع والمتمثلة في إنهاء الحرب، وإحداث التحول الديمقراطي، وخلق نظام لا مركزي، ينقل السلطة من المركز إلى الولايات بصورة تنتهي معها ظاهرة التهميش، الذي يعد سبباً مباشراً يذكي نار الحرب.

ويمضي جارانج في شرح رؤيته "إن تقليص هيمنة المركز تمثل عاملاً مهماً لوقف الحرب في جبال النوبة وجنوب النيل الأزرق.. ويمكن توسيع ذلك ليشمل بقية القطر". وأهمية هذا الحديث أنه يتناول الوضع في المناطق المهمشة التي يكثر الحديث عنها في السودان بما في ذلك دارفور.

خرج الاجتماع بعدة مطالب أهمها: احترام وقف إطلاق النار بين الحكومة وحركة تحرير السودان، وتصفية مليشيات الجانجويد وتجريدها من السلاح فوراً، وتقديم قادتها للمحاكمة  ـ على أن يتم ذلك بإشراف دولي ـ والتحقيق في جرائم الإبادة الجماعية والتطهير العرقي، وتحديد المسؤولين عنها، وتقديمهم للمحاكمة، وإعادة تأهيل القرى التي دمرت وإعادة سكانها إليها وتعويض المتضررين، ثم تنظيم حملة تعبئة واسعة، إقليمية ودولية، لاستقطاب الدعم الإنساني لإغاثة المتضررين، وخاصة من المحيط العربي والإسلامي.

2. موقف المؤتمر الشعبي من الأزمة

لا يختلف موقف التجمع في مجمله عن الوجهة التي ذهبت إليها الأحزاب والتجمعات السياسية الأخرى، إذ يرى المؤتمر الشعبي بزعامة د. حسن الترابي أن الحكومة تبنت خطة تنقل بموجبها الآلة العسكرية من الجنوب بعد توقيع اتفاق السلام إلى دارفور ومناطق الصراع الأخرى "المناطق المهمشة" في غرب السودان وشرقه، وترى من ذلك "لامبالاة وعدم جدية". ويوجه المؤتمر الشعبي نقداً شديداً لشركاء الأمس في السلطة، ويقول في بيانه، حول الأزمة، إن السياسة القمعية، التي سلكتها الحكومة في علاج القضية، هي التي أدت إلى هذا الواقع المأساوي. وتكاد تتطابق مطالبه، لحل الأزمة، مع بقية الأحزاب في التجمع وحتى حزب الأمة، وذلك من زاوية المطالبة بالحريات السياسية، وإشراك القوى السياسية الأخرى في حل القضية، والإصلاح والتعويض للمتضررين.. إلخ.

في هذا الصدد، يشير د. خليل إبراهيم، رئيس حركة العدل والمساواة، التي تعد من روافد المؤتمر الشعبي، بحسب تصنيف القوى السياسية السودانية، إلى أنهم "حركة ضد التهميش وهيمنة مجموعات بعينها على السلطة والثروة في البلد"، وأنهم يقفون مع وحدة السودان، وأن حركته ضد مبدأ تقرير المصير، الذي يرى فيه خطراً على وحدة السودان. ولذلك فالبيان المشترك الذي صدر عقب اللقاء بين مسؤولي العدل والمساواة ومسؤولي الحزب الشيوعي السوداني، تضمن الحرص على تناول الأزمة السياسية في السودان عامة، دون التركيز على الوضع في دارفور خاصة انعكاساً لحالة عامة، "الاتفاق على برنامج للإجماع الوطني يعيد بناء السودان على أسس جديدة تراعي تحقيق اللامركزية الواسعة، وتضمن الحقوق السياسية والاقتصادية والاجتماعية، والمشاركة العادلة في السلطة المركزية".

3. موقف حزب الأمة من الأزمة

لا يكاد حزب الأمة يختلف عن بقية الأحزاب والقوى السياسية من حيث إدانته للوضع المتردي، ورفضه أسلوب العنف والتصعيد العسكري، وتأييد الإصلاح الجذري. ويجمل حزب الأمة المطلوب عمله لمواجهة الوضع بدارفور في عدة نقاط، أبرزها دعوته للاعتراف بالأخطاء السياسية من الخلل في التوازن التنموي، وتسييس الجهاز الإداري الأهلي، وتحويلهما إلى ذراع حزبي وأمني، وكذلك الإفراط في مسألة التسليح والتدريب، ما أدى إلى الانفلات الأمني، وعدم التصدي لظاهرة الفساد. ويدعو حزب الأمة إلى التسليم بحقائق موضوعية، مثل: الحقوق المشروعة للمزارعين والرعاة، مع ضرورة الحياد وكفاءة الإدارة المدنية والأهلية، ويذهب لحد الدعوة إلى إعفاء حكام الولايات الحاليين، وتعيين ولاة جدد من ذوي الكفاءة، والدعوة إلى مؤتمر جامع، يمثل كل القوى السياسية، التي كانت ممثلة في الجمعية التأسيسية المنتخبة عام 1986، وكذلك القوى التي أفرزتها المقاومة المسلحة، للنظر في قسمة السلطة المركزية أساساً للتوازن لكل السودان.

هذا إلى جانب كيفية إزالة آثار ثقافة العنف ومشروع نزع السلاح وإعادة الانضباط، ووضع خارطة استثمارية تعالج صراع الموارد. ويرى السيد عبد الرسول النور، القيادي في حزب الأمة، أن الحل السوداني لمشكلة دارفور هو الأنسب الذي يمكن بلوغ هدفه عبر وسطاء "مثل دخول العقيد معمر القذافي بثقله الأفريقي، ومعرفته بأطراف النزاع وتأثيره على بعضهم". بينما يرى عدم وجود جدوى للتدخل الأجنبي لحل الصراع الخامس على مستوى العالم.

بصورة عامة، تكاد تتفق الأحزاب السياسية في السودان في إلقاء تبعة الأزمة على الحكومة السودانية، فنجدها تتفق على أن مشكلة دارفور قضية سياسية، تتطلب حلاً سياسياً، يصبح ممكناً عبر مؤتمر قومي جامع يضم كل القوى السياسية وأهل دارفور، والاستفادة من مبادرات سكان الإقليم التي تجسدت في 25 مبادرة متنوعة. كما أن هناك اتفاقا على تكوين لجنة لتقصي الحقائق حول كل الجرائم التي ارتكبت في دارفور وتقديم الجناة للمحاكمة، وأن يضع المؤتمر العام خطة لتدارك الوضع في دارفور تلتزم الحكومة بتنفيذها وبالسرعة المطلوبة، وإعادة النازحين، من داخل السودان وخارجه، إلى ديارهم مع توفير الحماية لهم، ونزع سلاح الجانجويد وكافة المليشيات، وإعادة إعمار البنى التحتية بالإقليم التي دمرتها الحرب، وتعويض المتضررين عن الممتلكات وما لحق بهم من أضرار. مجمل القول، إن أزمة دارفور قد عكست جوانب الأزمة السياسية في السودان بكل مكوناتها الأساسية والمتمثلة في السلام، والوحدة، والديموقراطية، والهوية، ونظام الحكم، واقتسام الثروة.

من ناحية أخرى، فقد أشار المهدي إلى أن الهدف من القرار 1706، المزمع مناقشته في مجلس الأمن، ليس جلب قوات بـ"صفة ومهام جديدة"، وإنما توسعة صلاحيات بعثة الأمم المتحدة الموجودة في السودان، لتشمل دارفور. ولفت إلى أن مهام حماية المدنيين والإغاثات الإنسانية ومراقبة وقف إطلاق النار، لا تقوم بها الحكومة السودانية حالياً، وإنما قوات الاتحاد الإفريقي. ودعا المهدي لأن تتألف القوات الأممية من دول عربية وإفريقية وآسيوية، وحتى اسكندنافية، شرط ألا تضم وحدات من بلدان "لها أجندة خفية في السودان"، على حد تعبيره. وقال إن تصعيد الموقف، باستصدار قرار من مجلس الأمن، مع رفض الحكومة السودانية له، وربما مضي الأسرة الدولية قدماً في اتجاه الضغط على الخرطوم، من شأنه أن "يحمّل الحكومة السودانية مسؤولية انهيار الأوضاع الإنسانية والأمنية والحدودية في دارفور"، في حال إصرارها على موقفها الحالي. وشدد على أن أية عقوبات ستلحق بالسودان سيتأذى منها الشعب السوداني على وجه الخصوص، وسكان دارفور على نحو بالغ. وأن فرض حظر على تصدير النفط السوداني "ستكون له عواقب وأبعاد خطيرة.

أكد المهدي أن "الشعب السوداني سيدفع ثمناً باهظاً لأخطاء حزب المؤتمر الوطني الحاكم في دارفور، وثمناً آخراً لموقفه المتعنت بشأن القوات الدولية". وأشار إلى أن اندفاع الولايات المتحدة الأمريكية بهذا الشأن، وضغوطها على الخرطوم، وبعثها بموفدة إلى السودان (جنداي فريزر مساعدة وزيرة الخارجية الأمريكية للشؤون الأفريقية)، يعد من "سوء الطالع"، ويضعف القضية. وشرح المهدي بقوله إن الولايات المتحدة الأمريكية متهمة بتعديات على حقوق الإنسان في جوانتنامو وأبوغريب ولبنان، و"مفروض أن يتولى مجلس الأمن، لا واشنطن، مهمة الضغط على الخرطوم". ومع أنه يستبعد توجيه ضربات عسكرية لبلاده، إلا أن المهدي حذر من أن أمراً كهذا "سيقوي حزب المؤتمر الوطني وطنياً".

4. موقف الحركة الشعبية لتحرير السودان من أزمة دارفور

عملت الحركة الشعبية لتحرير السودان، ومنذ وقت مبكر، على توسيع دائرة مناطق العمليات، لتشمل أطرافاً ومناطق أخرى داخل السودان وبعيداً عن الجنوب، وفي هذا المجال، فقد نشطت علاقاتها وتدابيرها في كل من الغرب والشرق السوداني ومنطقة جبال النوبة، ويلاحظ أن عدداً من قيادات الميليشيات في دارفور كانوا أعضاء في الحركة الشعبية لتحرير السودان، وقد انضموا إلى الحركة، في وقت سابق، وتلقوا تدريبات وعملوا مع تلك الحركة، في الجنوب والشرق، ثم دفعت بهم الحركة إلى دارفور لقيادة العمل المسلح في مواجهة الحكومة المركزية، كما أن العديد من أبناء دارفور تدربوا في مناطق الحركة بشمال بحر الغزال (منطقة ملوال اكوال) بغرض دفعهم إلى دارفور.

رابعاً: التعامل مع الأزمة

1. تصعيد الصراع في الإقليم

أدت الصراعات، التي كانت في غالبها بين القبائل الموجودة داخل إقليم دارفور، وخصوصاً بين القبائل ذات الأصول العربية والأخرى ذات الأصول الأفريقية، إلى تكوين بعض التحالفات أو التمايز العنصري القبلي، فكونت القبائل العربية تنظيم "قريش"، بينما كونت مجموعة القبائل الأفريقية مجموعة "الزرقة"، وبعد أحداث النزاع بين الفور والعرب في عامي 1988، 1989 بدأ الفور يسعون إلى إنشاء ميليشبات لمواجهة الميليشيات العربية لذلك استعانوا، في وقت لاحق بعناصر من قبيلة الزغاوة لأجل التدريب، وفي ابريل 2001 وقعت أحداث قرى شويا بهجوم مجموعة من العرب المحاميد والتي أسفرت عن حرق ثلاث قرى، ومقتل 18 وجرح أكثر من عشرين، من قبائل الفور، ونهب عدد كبير من الضأن والماعز، وتوالت الأحداث المتفرقة في أعقاب ذلك بين الفور والعرب، منذ ذلك الحين، وحتى يونيه 2001، راح ضحيتها أعداد كبيرة من الجانبين، وهو الأمر الذي دفع الفور للسعي لتكوين ميليشيات للدفاع عن أنفسهم ضد العرب.

وفي عام 2002، تجددت الصراعات بين الفور والقبائل العربية، وتزامن ذلك مع وجود نزاعٍ في أوساط قبيلة الزغاوة حول الإدارة الأهلية، بسبب نزاع مع أحد بطون القبائل العربية، لذلك نزحت مجموعات من الزغاوة إلى جبل مرة، وأقام البعض الآخر من الزغاوة معسكرات بغرض الثأر من العرب، وبدأت تبرز منذ ذلك الحين اتهامات للحكومة بانحيازها للقبائل العربية والجنوح من جانب بعض الجماعات لاستهداف المؤسسات والقوات الحكومية، لذلك عملت الحكومة على تنشيط آليات المعالجة السياسية والأهلية، بهدف إجراء الصلح بين القبائل المتناحرة، وبسط هيبة الدولة وحفظ الأمن، وعقدت عدة مؤتمرات شاركت فيها العديد من القبائل بما فيها الفور (مؤتمر نيرتتي أغسطس 2002، مؤتمر كاس سبتمبر 2002، مؤتمر الفاشر مارس 2003).

يلاحظ أن توقيع اتفاقية وقف إطلاق النار بجبال النوبة، ومناقشة الأمور ذات الصلة بالمناطق الثلاث: جبال النوبة والنيل الأزرق وأبيي، شجع حركات التمرد المسلحة بالإقليم للتعجيل باللحاق بالأحداث لعرض مشكلتهم والتعامل معها، وفق ما تقتضيه معالجة قضايا تلك المناطق، حتى وإن تطلب الأمر تدويلها، ولكي يتحقق هذا كان من الضروري من منظورهم، القيام بعمليات عسكرية لشد الانتباه تجاههم، محلياً وإقليمياً ودولياً، والتنسيق مع أبناء الإقليم في الخارج للترويج لوجود أزمة داخل الإقليم، حتى تتبناها المنظمات الدولية، وتحفيز الدول الفاعلة وصاحبة المصالح للتدخل.

لقد زاد النشاط المسلح اعتبارا من أكتوبر 2002، باستهداف الطرق العامة، والنهب والسرقات، وبحلول ديسمبر 2002 قامت العناصر المسلحة بحملات استهدفت العناصر المتعاونة مع الحكومة، وفي نهاية ديسمبر تحركت الحكومة المركزية بهدف بسط هيبة الدولة والأمن، ووضع حد للأنشطة المسلحة الموجهة إليها، وسرعان ما تدخل أعيان دارفور وطالبوا بترك أمر الجماعات الخارجة المسلحة إليهم، وعلى الرغم من موافقة الحكومة على ذلك، وتقديمها الدعم اللازم، إلا أنهم فشلوا في مهمتهم، وخلال شهري فبراير ومارس، فضلت الحكومة خيار الحوار قبل الحسم العسكري، وفي تلك الأثناء، صعدت حركتان في دارفور، هما: حركة تحرير السودان وحركة العدل والمساواة، العمل العسكري ضد مؤسسات الحكومة المركزية، بدءاً من أحداث فبراير 2003 بالإقليم، ليشهد ملف دارفور تصعيداً قفز معه إلى مجلس الأمن.

والغريب هنا أن مسارات أزمة دارفور محلياً ودولياً، قد تزامنت مع معظم أشواط محادثات السلام، بين الحكومة والحركة الشعبية لتحرير السودان، التي انطلقت ببروتوكول ماشاكوس، في يوليه 2002، لتنتهي باتفاق نيفاشا يناير 2005. ويبدو أن رسالة حركات دارفور كانت تشير، ضمنياً، إلى إن حكومة الخرطوم، لا تتفاوض إلا مع من يحمل السلاح، على الرغم من أن الحركتَين خاضتا محادثات تحت مظلة الاتحاد الإفريقي بالعاصمة النيجيرية أبوجا.

ومرت عدة أشهر من المفاوضات التي تخللها نقض لما يتفق عليه الجانبان، الحكومة ومسلحو دارفور، حيث تجدد لقاء الطرفين في أديس أبابا، في جولة جديدة، هي السادسة، منذ أن بدأت هذه السلسلة من المفاوضات بمبادرة من الرئيس التشادي "إدريس ديبي"، وتحت إشرافه. وتطرح الجولة الجديدة، التي يرعاها الاتحاد الأفريقي، لأول مرة، التساؤل عما إذا كانت ستحدث انعطافاً مهماً وجدياً في مسار التفاوض لجهة التقيد الصارم بما يُتوصل إليه من اتفاقات؟ وما مصير الاتفاقات السابقة لمفاوضات أديس أبابا بما فيها اتفاق 8 ابريل 2004، والذي مثل استجابة ما لمطالب المجتمع الدولي، الداعية لمواجهة الكارثة الإنسانية في دارفور؟.

2. قبول المشاركة في المفاوضات لتسوية الأزمة

تزامنت مفاوضات أديس أبابا مع تفعيل الآلية المختصة بتنفيذ الاتفاق الموقع بين الحكومة والأمم المتحدة والتي توفر مساراً موازياً للتعامل مع أزمة دارفور، بعد أن اعترضت الحكومة على مشاركة مراقبين دوليين في المفاوضات، من منطلق رفضها لتدويل القضية. إن وجود إرادة وتوجه قويَين نحو تدويل مسألة دارفور، التي بدأت تتضح، جلياً، لدى مسلحي دارفور، يمكن أن تفسر بأثر رجعي فشل الجهود التشادية السابقة لمفاوضات أديس أبابا وما تمخضت عنه من اتفاقات، وتشير إلى المآلات التي يمكن أن تؤول إليها تلك المفاوضات الجارية، والتي بدأت متعثرة بسبب الشروط المسبقة التي ظلت حركة التمرد بفصيليها تطرحها بين يدي كل جولة للتفاوض والتي تفضي بقصد، أو من دون قصد، إلى إفشال الرهان على الحوار بين طرفي النزاع سبيلاً وحيداً لمعالجة المشكلة سلمياً؛ ما يقود إلى إفشال الرهان على دور الاتحاد الأفريقي بالكيفية نفسها التي أحبطت بها المبادرة التشادية، وإفساح المجال أمام التدخل الدولي.

ولا تتناقض تكتيكات مسلحي دارفور تجاه مساعي التفاوض مع مطالبتهم المتصاعدة بتدخل دولي في دارفور، وليست من قبيل المصادفة وحدها، أنها تتكامل مع المناورات الأمريكية، المتعددة الأطراف والتي تهدف في نهاية الأمر إلى خطف ملف دارفور من الوسطاء الإقليميَين، مثلما حدث لملف الجنوب.

إن انتقال الوساطة من تشاد إلى الاتحاد الأفريقي ليس أمراً شكلياً، كما أن فشل الوساطة التشادية وهو المسوغ لتلك النقلة  على الرغم مما حققته من نتائج ايجابية لا يعني تلقائيا، تزايد فرص نجاح الاتحاد الأفريقي، بمعزل من الظروف والملابسات الإقليمية والمحلية والدولية المتصلة بالمسألة الدارفورية، كما أنه ليس منظوراً أن ينطلق الاتحاد الأفريقي من فراغ أو يبدأ بداية جديدة كلياً، فمجهودات نجامينا ستشكل مقدمات لا غنى عنها للوصول إلى اتفاقات نهائية حول النزاع في دارفور.

وافقت الحكومة السودانية على تحييد المليشيات التي سلحتها، وتسيطر عليها أو لديها نفوذ عليها، أو على نزع سلاح تلك المليشيات، في خمسة اتفاقات منفصلة: اتفاق نجامينا لوقف إطلاق النار في 8 أبريل 2004، واتفاق نجامينا في 25 أبريل 2004، وبيان 3 يوليه 2004 الموقع عليه مع الأمم المتحدة، وخطة العمل الموقع عليها في 5 أغسطس 2004 مع الأمم المتحدة، وبروتوكول 9 نوفمبر 2004 بشأن الترتيبات الأمنية الموقع عليه في محادثات أبوجا التي قادها الاتحاد الأفريقي. ووافقت الحكومة، أيضاً، على تحديد هوية المليشيات الخاضعة لسيطرتها أو نفوذها، في خطة عمل 5 أغسطس 2004، وبروتوكول 9 نوفمبر 2004 بشأن الترتيبات الأمنية. وكررت وعدها بنـزع سلاح المليشيات المسلحة، في اتفاق 19 نوفمبر 2004، لوقف إطلاق النار، الذي وقعت عليه مع الحركة الوطنية للإصلاح والتنمية، ولكن، على ما يبدو، لم تف بأي من هذه الالتزامات.

ظلت الحكومة طوال شهور تعلن براءتها، متذرعة بأن صراع دارفور هو صراع محلي معقد، هو في الأساس بين قبائل الرحل والقبائل المستقرة، وتنفي مسؤوليتها الرئيسية عن تشجيع الانقسامات العرقية لأغراضها الخاصة. وتلك الدعوى تصبح يومياً نبوءة تحقق نفسها، حيث إن القتال بين الجماعات يزداد أيضاً. والبروتوكول الأمني الذي وقعت عليه، في أبوجا، الحكومة والجماعتان المتمردتان الأساسيتان في دارفور، حركة تحرير السودان/ جيش تحرير السودان وحركة العدل والمساواة ـ كان في الأساس يختص بوسائل تحسين تنفيذ اتفاق وقف إطلاق النار، الذي ظلت كل الأطراف تنتهكه، تكراراً، منذ أن أبرم في نجامينا، في 8 أبريل 2004. ومع ذلك، ظلت الحكومة ـ على حد زعم البعض ـ أساس المشكلة الأمنية في دارفور، خاصة بسبب رفضها سحب الدعم من الجانجويد وتحييدهم.

3. مناشدة الحكومة السودانية المجتمع الدولي لتقديم الدعم

نتيجة لتطورات الأوضاع وتفاقمها، بعد لجوء أكثر من 200 ألف سوداني إلى تشاد، اضطرت الحكومة تحت الضغط العالمي، من جانب الولايات المتحدة الأمريكية والدول الغربية خاصة، إلى الاعتراف بحجم المشكلة، وطالبت المجتمع الدولي بتقديم الدعم الإغاثي للاجئين والنازحين، ولكنها لم تعترف بأسباب نزوحهم، وأصبحت دارفور محط أنظار العالم، حيث زارها أكثر من 21 وفداً دولياً، خلال فترة قصيرة، على رأسهم وزير الخارجية الأمريكي، كولن باول، والأمين العام للأمم المتحدة، كوفي عنان، ورغم الضغوط الدولية، والتهديد بفرض عقوبات على الحكومة إلا أن بوارق الأمل لا تزال تلوح في الأفق تشير إلى نهاية قريبة لمأساة النازحين واللاجئين في دارفور، ولا يزال التردي الأمني وتخوف النازحين واللاجئين من العودة لقراهم المحترقة والمسلوبة يمثلان تهديداً، ولا تزال محادثات السلام بين الحكومة وحركتَي التمرد متعثرة وفداحة المأساة واضحة. وأهم ما يهم المجتمع الدولي، الآن، هو توفير الغذاء والدواء للنازحين، والذي يقتضي توفير التمويل، كما يقتضي بسط الأمن الذي يكمن في وقف نشاط الجانجويد، وذلك لا يتم إلا بمزيد من الضغط على الحكومة السودانية. وعلى الرغم من تهديد الدول الغربية بالتدخل في السودان إلا أن ذلك غير وارد حالياً، وأي تدخل خارجي سيكون أفريقياً في المرحلة الأولى، وسيقتصر الدور الغربي على توفير التمويل للقوات التي يرسلها الاتحاد الأفريقي للمنطقة، وهناك أحاديث لم تتبلور بعد حول مشاركة الحركة الشعبية لتحرير السودان بقوات لحفظ السلام في المنطقة، وربما يكون للدول الغربية خطط مستقبلية إذا فشل الاتحاد الأفريقي، تقوم على إنشاء مناطق آمنة، يمنع فيها أي وجود عسكري حكومي لحماية النازحين.

4. الدور الدولي في الأزمة

على الرغم من أن الصراع في دارفور هو من صميم الشأن الداخلي السوداني، إلا أنه يلاحظ أن أزمة الإقليم استحوذت على اهتمام العديد من الدول الأمريكية والأوروبية، والتي أقحمت نفسها في هذه الأزمة إقحاماً لا مسوِّغ له، سوى الادعاءات والمزاعم التي أطلقوها بشأن المأساة الإنسانية التي تحدث في الإقليم، ويلاحظ الإعداد المسبق للتدخل الدولي في شئون الإقليم والسودان، منذ الزيارة التي قام بها من يسمون أنفسهم بأصدقاء أمريكا لولايات دارفور الثلاث عام 2000، بقيادة السفير البريطاني السابق، ريتشارد ميلك بيس؛ لتقييم الأوضاع الأمنية هناك، والتي شجعت الفور على إحياء روح التمرد في الإقليم، بعد أن أُخْمِدت، في نهاية عام 1991، لاعتقادهم بوقوف المجتمع الدولي إلى جوارهم. وخلال عام 2003 عقد ما يسمى بمؤتمر المناطق المهمشة في ألمانيا، والذي أعدت له ونظمته قيادات المؤتمر الشعبي مع قيادات حركة العدل والمساواة من الذين لهم خلفيات وارتباطات سابقة بالمؤتمر الشعبي، وقيادات من مناطق النيل الأزرق والجنوب وجبال النوبة (ما يسمى بالمناطق المهمشة)، وبعد انعقاد هذا المؤتمر، تغيرت الأجندة السياسية، وتغيرت مطالب الحركة المسلحة، حيث ركزت على ما يلي:

·   تحرير دارفور.

·   استهداف المدن والمؤسسات والقوات الحكومية.

·   استهداف الحكومة الاتحادية.

·   طرح قضية دارفور قضية سياسية.

·   الدعوة للتنمية الاجتماعية والاقتصادية.

·   .الاستفادة من التناقضات السياسية الحزبية ومن الدعم الأجنبي.

5. الدور الأمريكي للضغط على الحكومة السودانية

تقود واشنطن الضغوط الدولية ضد الحكومة السودانية، ونجحت في نقل الملف السوداني إلى مجلس الأمن، وتدخل واشنطن في قضية دارفور ليس جديداً، حيث إنها تدخلت مرتين من قبل عام 1973 و1985، لإغاثة آلاف الجوعى من المجاعة بالمنطقة عبر جسور جوية مباشرة لنقل الغذاء، حتى بات المواطن العادي في دارفور يعرف عن أمريكا وأياديها البيضاء أكثر مما يعرف عن حكوماته المختلفة التي تخلت عنه إبان المحنتين، والجديد في التدخل الأمريكي هو طرح شعارات حماية المواطنين من حكومتهم التي استخدمت مليشيات الجانجويد ضدهم، ولذلك كان اللجوء لمجلس الأمن لإصدار قرار دولي ضد الخرطوم. ويري العديد من المراقبين أن التهديدات الأمريكية الموجهة ضد السودان بشأن أزمة دارفور جدية، وان وراءها أهدافا أخري تتمثل في أن واشنطن التي سعت ونجحت في تحقيق انفراج في قضية جنوب السودان، لا تجد ملفاً آخر أمامها يهدد بنسف الاستقرار في السودان، خاصة أنها حددت موعداً لتوقيع الاتفاق النهائي بين الحكومة السودانية والحركة الشعبية لتحرير السودان قبل الانتخابات الرئاسية، وأن وجود مشكلة دارفور تعرقل هذه المساعي، وتبدد فرص الرئيس الذي يسعى للنجاح في السودان من خلال قضية الجنوب. إن الإدارة الأمريكية تنظر للسودان باعتبارها من الدول المارقة، ويجب محاسبتها، ولذلك فقد ظلت لسنوات تفرض عليه العقوبات، وتضعه في قائمة الدول الراعية للإرهاب. ويأتي التهديد، أيضاً، في ظل الإستراتيجية الأمريكية لمنطقة شرق أفريقيا، والذي يمثل السودان جزءاً منها، حيث تسعي واشنطن لخلق بؤرة استقرار أمني في المنطقة، من خلال تشكيل قيادة عسكرية لمراقبة الإرهابيين، كما أن واشنطن لها أهداف أخري تتمثل في وجود النفط في السودان وتشاد، والذي يتطلب الاستقرار لدخول الشركات الأمريكية، ولكل هذه الأسباب فإن التهديدات الأمريكية جادة، ويجب على الحكومة السودانية أن تواجهها بمزيد من الإجراءات لكسب الثقة، خاصة أن واشنطن وضعت قائمة من المسؤولين الحكوميين تطالب بمحاكمتهم بتهمة دعم الإرهاب، وأن قائمتها الخاصة بقادة الجانجويد جزء من توجه أمريكي عام تجاه الحكومة السودانية، ولن يستطيع المجتمع الدولي منع التوجه الأمريكي، والذي يتم عبر مجلس الأمن.

وخلاصة القول أن الأمم المتحدة ربما ستزيد الضغوط على الحكومة السودانية بعد تصعيد القضية من قبل واشنطن في مجلس الأمن الأمر الذي سيؤدي لإرسال قوات دولية، وأن طلائع القوات الأفريقية، التي قرر الاتحاد الإفريقي إرسالها لدارفور، ستكون نواة لهذه القوات، واستمراراً ستكون دارفور بوابة للتدخل في الشأن السوداني.