إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / موضوعات سياسية عسكرية / مشكلة دارفور، وتداعياتها المحلية والإقليمية والعالمية






مناطق اللاجئين
إقليم دارفور
حدود إقليم دارفور



تحديث مشكلة دارفور

المبحث الرابع عشر

تطور مفاوضات التسوية السلمية وأزمة الجنائية الدولية

أولاً: تطور مفاوضات الدوحة للتسوية السلمية، لإنهاء الصراع السوداني في دارفور

1. جهود اللجنة الوزارية العربية الإفريقية، حول السلام في دارفور

ناشدت اللجنة الوزارية العربية الإفريقية حول السلام في دارفور برئاسة دولة قطر[1]، الأطراف السودانية كافة للتجاوب مع الجهود المبذولة لعقد مباحثات سلام في أقرب وقت ممكن، وتحمل مسؤولياتها من أجل تعزيز فرص تحقيق السلام الأهلي بالسودان ككل، وفتح الطريق أمام جهود إعادة البناء والاعمار. وأكدت اللجنة في بيان أصدرته في ختام اجتماعها، الذي عقدته بالدوحة في 23 نوفمبر 2009، برئاسة الشيخ "حمد بن جاسم بن جبر آل ثاني" رئيس مجلس الوزراء وزير الخارجية القطري، على دعم الجهود الحثيثة التي تقوم بها دولة قطر والوسيط المشترك للأمم المتحدة والاتحاد الإفريقي، لإطلاق محادثات السلام في أقرب الآجال بالعاصمة القطرية الدوحة، ومطالبة جميع الأطراف بالتجاوب مع هذه الجهود. وقررت اللجنة الوزارية تكليف وفد من دولة قطر والاتحاد الإفريقي والجامعة العربية ،بالتوجه إلى نيويورك للعمل، بالتنسيق مع الدول العربية والإفريقية الأعضاء بمجلس الأمن، لحشد التأييد الدولي والإقليمي اللازمين لدعم أهداف اللجنة، وتعزيز فرص تحقيق السلام. ودعت اللجنة مجلس الأمن مجددا إلى إعمال المادة 16 من نظام روما الأساسي، من أجل تأجيل الإجراءات الخاصة بجميع الإحالات المرفوعة إلى المحكمة الجنائية الدولية بشأن دارفور، بما يسمح بتعزيز فرص تحقيق السلام والعدالة، ويهيئ أفضل الظروف لإطلاق مباحثات السلام وتسوية أزمة دارفور بشكل شامل، في أقرب الآجال.

وحث بيان اللجنة الوزارية على توثيق وتنسيق الجهود الإقليمية والدولية، لتشجيع بعض الحركات المترددة في الانضمام إلى مساعي السلام، على التجاوب الإيجابي مع هذه المساعي، صوناً لمصلحة الوطن واستقراره ووحدة أراضيه، ولسرعة تهيئة المناخ المناسب لمعالجة الأزمة الإنسانية، التي يعاني منها أهل دارفور، ووضع حد لأثارها المختلفة. ورحب البيان بمبادرة أهل السودان والمواقف الإيجابية التي أبدتها بعض الحركات المسلحة والفصائل بدارفور، تجاوبا مع مساعي السلام المبذولة من قبل اللجنة. وتقدير الدور الإيجابي والنشط لممثلي ومكونات المجتمع المدني بدارفور، الرامية إلى تسهيل عقد مباحثات سلام وطي صفحة العنف والتناحر والمساعدة على رتق النسيج الاجتماعي لدارفور، والتأكيد على الأهمية الكبرى لدفع سبل الحوار الدارفوري ـ الدارفوري. وأكدت اللجنة الوزارية العربية الإفريقية حول السلام بدارفور، متابعة الجهود المبذولة من الحكومة السودانية لمعالجة أزمة دارفور، وتشجيعها على مواصلة الاضطلاع بهذه الجهود، وفقاً لتعهداتها وتفاهماتها مع الجامعة العربية والاتحاد الإفريقي والأمم المتحدة. كما أكدت على أهمية الاتساق بين جهود تحقيق السلام وتحقيق العدالة، وضرورة إبلاء الأهمية المطلقة لتحقيق السلام، بين الأطراف السودانية المعنية بأزمة دارفور. وأشادت اللجنة بالجهود والتجارب المقدرة السابقة المبذولة من كل من ليبيا برعاية العقيد "معمر القذافي"، ونيجيريا، من أجل مباحثات سلام بين حكومة السودان والحركات المسلحة بدارفور وحل الأزمة؛ مؤكدة على ضرورة الاستفادة من هذه التجارب، والبناء عليها في محادثات الدوحة القادمة.

2. وثيقة التفاهم بين الحكومة السودانية وحركة العدل والمساواة

تضمنت وثيقة التفاهم بين الحكومة السودانية وحركة العدل والمساواة، أنه برعاية كل من دولة قطر والوسيط المشترك للأمم المتحدة والاتحاد الإفريقي لدارفور، عُقد اجتماع خلال الفترة من 10 - 17 فبراير 2009، في الدوحة، عاصمة دولة قطر، بين وفد من حكومة الوحدة الوطنية في السودان، ووفد من حركة العدل والمساواة السودانية، من أجل إيجاد تسوية سلمية متفاوض عليها، لإنهاء الصراع السوداني في دارفور. وعليه فإن الطرفين:

أ. يثمنان غالياً دور دولة قطر كبلد مضيف، ويتفقان على الدوحة مقراً لانعقاد المحادثات بينهما.

ب. يثمنان الرعاية الكريمة التي يتفضل بها حضرة صاحب السمو الشيخ "حمد بن خليفة آل ثاني" أمير دولة قطر، والوساطة التي تضطلع بها حكومة دولة قطر الموقرة، والسيد "جبريل باسولي"، الوسيط المشترك للأمم المتحدة والاتحاد الإفريقي.

ج. يقران بالدعم البناء للعملية السلمية، من قبل دول الجوار والمجتمع الدولي.

د. يعلنان نيتهما في العمل على وضع حد للصراع الدائر بينهما على النحو التالي:

(1) يقران إعطاء العملية السلمية الأولوية الإستراتيجية على ما سواها، لتسوية الصراع في دارفور.

(2) يوافقان على إتباع نهج شامل يخاطب جذور المشكلة، ويحقق السلام الدائم في البلاد.

(3) يوافقان على اتخاذ جميع التدابير الكفيلة بإيجاد بيئة مواتية، تساعد على التوصل إلى تسوية دائمة للصراع. ومن بين هذه التدابير المطلوبة:

(أ) الكف عن كافة صنوف المضايقات تجاه النازحين.

(ب) ضمان انسياب مساعدات الإغاثة إلى مستحقيها، دون أي عوائق أو عراقيل.

(ج) الالتزام بتبادل الأسرى وإطلاق سراح المسجونين والمحكومين والمحتجزين والمعتقلين بسبب النزاع بينهما، بناء للثقة وتسريعاً للعملية السلمية. وتتواصل دولة قطر والوسيط المشترك مع الطرفين، لوضع جدول لإتمام إطلاق سراح المذكورين أعلاه.

(د) يعملان لأجل إبرام اتفاق إطاري في وقت مبكر، يفضي إلى اتفاق لوقف العدائيات ويضع الأسس للتفاوض حول القضايا التفصيلية.

(هـ) يتعهدان بإتباع الاتفاق الإطاري بمحادثات جادة، تؤدي إلى إنهاء الصراع في أقصر وقت ممكن لا يتجاوز ثلاثة أشهر.

(و) يتعهدان بالاستمرار في محادثات السلام وإبقاء ممثليهما في الدوحة، من أجل إعداد اتفاق إطاري للمحادثات النهائية.

وفي هذا الشأن، رحب سكرتير عام الأمم المتحدة "بان كي مون" باتفاق حسن النوايا، الذي جرى إبرامه بين الحكومة السودانية وحركة العدل والمساواة الدارفورية، في العاصمة القطرية الدوحة. وذكرت المتحدثة باسم الأمم المتحدة "ميشيل مونتاس" في إيجاز صحافي، أن الاتفاقية "تمثل خطوة بناءة في الجهود الراهنة للتفاوض حول حل سلمي لهذا النزاع الطويل، ويدعو السكرتير العام الحكومة السودانية وحركة العدل والمساواة إلى التحرك بسرعة لإبرام وقف للأعمال العدوانية، وإبرام اتفاقية أخرى "تضع إطاراً مفصلاً وشاملاً للمحادثات"، الرامية للتوصل إلى تسوية نهائية. وأضافت أن "بان كي مون" يشدد على أنه "حتى تنبذ الأطراف المعنية العنف، فان الموقف في دارفور لا يمكن تحسينه"، كما يكرر عزم الأمم المتحدة على مواصلة وساطتها والاستمرار في عملية حفظ السلام والعمل الإنساني القائم في دارفور، ودعم جهود الأطراف للتوصل إلى تسوية سياسية للصراع في الإقليم".

ورحب مجلس الأمن بدوره بالاتفاق، الذي جرى إبرامه تحت رعاية قطر والاتحاد الإفريقي في الدوحة. كما رحبت به، وإن على حذر المندوبة الأمريكية الدائمة، "سوزان رايس"، مشيرة إلى أنها لا ترى رابطاً بين اتفاق الدوحة ومحاولات الاتحاد الإفريقي تفعيل المادة 16 من النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية التي تتيح له تعليق إجراءات اتهام الرئيس السوداني عمر البشير بارتكاب جرائم حرب في دارفور لمدة عام. وقالت رايس إن الموقف الأمريكي "لا يزل نفسه، لأننا لا نرى ظروفاً تستدعي ذلك حالياً.

كما لقي هذا الاتفاق لتسوية مشكلة دارفور سلمياً، الموقع بالدوحة ترحيباً دولياً واسعاً، بوصفه خطوة مهمة على طريق التوصل لسلام شامل وعادل في الإقليم. وقد أشاد العالم بالجهود المخلصة التي بذلتها قطر في سبيل التوصل للاتفاق، وثمّن دورها ومساعيها ومساهماتها في تحقيق المصالحة والسلام في الإقليم، الذي يئن من الصراعات والحروب منذ سنوات. وطالبها بضرورة الاستمرار في هذه الجهود حتى يعم السلام الشامل جميع أرجاء الإقليم والسودان كله. فقد أعرب مجلس الوزراء، برئاسة الشيخ "حمد بن جاسم بن جبر آل ثاني"، رئيس مجلس الوزراء، في الاجتماع العادي الذي عقده في مقره بالديوان الأميري عن ترحيبه وارتياحه لنتائج جولة مباحثات سلام دارفور، التي أسفرت عن توقيع الاتفاق. كما أعرب المجلس عن تقديره لمجلس الأمن والأمين العام للأمم المتحدة والدول الأعضاء في مجلس الأمن، وغيرها من الدول التي دعمت المبادرة وما نتج عنها من اتفاق . وأشاد المجلس بالجهود التي بذلها الوسيط المشترك للأمم المتحدة وللاتحاد الإفريقي. كما قدر المجلس الجهود التي بذلتها الجامعة العربية والاتحاد الإفريقي ودول الجوار، والتي أسهمت في التوصل إلى هذا الاتفاق. وأكد المجلس التزام دولة قطر بالاستمرار في مساعيها حتى يتم التوصل إلى سلام شامل في دارفور. كما رحبت الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا وفرنسا والصين والأمم المتحدة ومجلس الأمن ومنظمة المؤتمر الإسلامي والجامعة العربية بالاتفاق، وأشادت به وعدته أنه خطوة ملموسة للأمام وتقدم بناء نحو إطار يشمل الجميع لحل الصراع في دارفور. وقد ثمنت هذه الدول الكبرى والمنظمات الدولية تسهيل قطر واستضافتها للمباحثات، في بيئة سلمية وبناءة.

أما "خليل إبراهيم"، زعيم حركة العدل والمساواة، فقد أكد خلال المؤتمر الصحفي الذي عقده عقب توقيع اتفاق الدوحة، أن مشكلة دارفور مشكلة عامة وليست مشكلة خاصة، وهى مشكلة جميع أبناء السودان. مشيراً إلى أن السودان شهد منذ استقلاله، عام 1956، حروباً عديدة في خمسة أقاليم من أقاليمه الستة. وأضاف، أن المشكلة هي تمتع الخرطوم بكل المزايا من خدمات وبنية تحتية وفرص عمل، في الوقت الذي تم فيه تجاهل باقي الأقاليم.. مؤكدا أن الحركة تهدف إلى تغيير النظام في السودان وتجديد الحياة السياسية، ورفع الظلم عن السودان، خصوصاً دارفور حيث تمت إبادة أكثر من 300 ألف شخص، إضافة إلى تدمير القرى. وقال إن الاتفاق الذي تم التوصل إليه جاء بعد فشل محادثات أبوجا واستمرار الحرب لأكثر من ثلاث سنوات. وبدعم قطر تم التوصل إلى هذا الاتفاق الذي سيذهب بنا إلى جولة أخرى من المفاوضات. وأضاف أن مشكلة دارفور ذات ثلاثة أبعاد: مشكلة سودانية ـ سودانية، وتشادية ـ تشادية في أرض دارفور، ومشكلة تشاديةـ سودانية، وأنه لحل هذه المشكلة يجب جمع كل أطراف المشكلة، مشيراً إلى أن أمير قطر تبني مشكلة تشاد والسودان، وسنبذل جهودنا لحل جميع المشاكل في وقت واحد. وأوضح أن من المشاكل الرئيسية قبل استئناف أي مفاوضات، هي وقف إطلاق النار وتبادل الأسرى؛ وأشار إلى أن المفاوضات الجارية تتعلق بجذور المشكلة، وحل هذه المشاكل يعنى الكثير لأهل السودان من نظام الحكم والديمقراطية والمعيشة.

وكشف الدكتور "خليل إبراهيم" أنه في حال التوصل إلى اتفاق نهائي، ستتحول حركة العدل والمساواة إلى حزب سياسي؛ لذلك فان الحركة تحرص على وحدة الشعب السوداني وتسعى إلى مشاركة كافة الحركات والخبرات من الأحزاب السياسية والمجتمع المدني، في التوصل إلى سلام نهائي وشامل. وقال: إننا في الحركة حريصون على وحدة السودان بكافة أقاليمه بما فيها الجنوب وأنه يؤيد انتخاب رئيس للسودان من الجنوب، حرصاً على وحدة البلاد. وحول مشكلة النازحين أكد "د. خليل إبراهيم" أن وضع النازحين مأساوي لدرجة كبيرة، قلة المواد الغذائية بكل المعسكرات، وعدم وجود مدارس أو خدمات. داعياً المنظمات الطوعية ودولة قطر ودول الخليج العربي، والعالم كله، للاهتمام بالنازحين واللاجئين. ورداً على سؤال حول خطة العمل المستقبلية بين الطرفين والوسطاء، وكيفية توسيع المشاركة في مفاوضات الدوحة، أشار إلى أن الحركة حددت خريطة طريق لها بدأت بإعلان حسن النوايا والاتفاق الذي تم التوقيع عليه في الدوحة، والرغبة في بناء الثقة، والخطوة الأخرى الدخول في مفاوضات اتفاق إطاري. وأنه بعد الانتهاء من التوقيع على هذا الاتفاق يتم التوصل للاتفاق النهائي الذي يتضمن وقف الحرب المباشرة والحرب الإعلامية، ومن ثم الدخول في مفاوضات بشكل تفصيلي بخصوص نظام الحكم في السودان، وإعادة الإعمار، وعودة الديمقراطية. وإذا تم التوصل لاتفاق نهائي، سيتم إعلان نهائي لإطلاق النار والدخول في الترتيبات النهائية لما تم الاتفاق عليه.

أما "أركو مناوي"، أحد القيادات الدارفورية وأحد رموز النخبة الحاكمة، فقد أكد دعمه لأي اتفاق يحقق السلام بدارفور، مؤكداً على أهمية دور دول الجوار في حل مشكلة دارفور عن طريق المحادثات. وحول مفاوضات قطر بشأن تلك المشكلة، ذكر مناوي: "نحن لم نكن طرفاً في قطر، لكن مواقفنا كانت واضحة. وقد جرت المشاورات في قطر بين بعض الأطراف، وليس بشكل كامل؛ ولكننا مع أي اتفاق أو جهد يؤدي إلى سلام في السودان وسلام في دارفور". وأضاف مناوي: "وسائل الإعلام تشير إلى وثيقة لإعلان حسن النوايا، ولا ندري ما إذا كانت تلك الوثيقة تساوي وقف إطلاق النار، أو وقف الأعمال العدائية، أو تساوي أقل من ذلك؟ إن ما نسمعه من وسائل الإعلام أنها وثيقة حسن نوايا". وكانت الحكومة السودانية و"حركة العدل والمساواة" توصلتا في ذلك الحين إلى "اتفاق حسن نوايا وبناء ثقة لتسوية مشكلة دارفور"، وأعربتا عن نيتهما العمل لإنهاء الصراع بينهما خلال ثلاثة أشهر". وتابع مناوي أن "موضوع الأسرى يهتم به أكثر إخواننا في حركة العدل والمساواة، وربما اهتمامهم به أكثر من مسألة وقف إطلاق النار، وعادة ما تتم عملية تبادل الأسرى بين الأطراف المتحاربة أثناء وقف الأعمال العدائية، أو وقف إطلاق النار".

3. توقيع وثيقة التفاهم بين الحكومة السودانية وحركة العدل والمساواة، في الدوحة

في 17 فبراير 2009، كان التوقيع على اتفاق "حسن نوايا وبناء ثقة"، بين حكومة جمهورية السودان وحركة العدل والمساواة لتسوية مشكلة دارفور، برعاية الحكومة القطرية. كما شهد التوقيع سعادة الدكتور "نافع علي نافع" مساعد الرئيس السوداني والدكتور "خليل إبراهيم محمد" رئيس حركة العدل والمساواة السودانية. وقد وقع الاتفاق عن حكومة الوحدة الوطنية السودانية الدكتور "أمين حسن عمر" وزير الدولة للثقافة، فيما وقعه عن حركة العدل والمساواة "جبريل إبراهيم" المستشار الاقتصادي لرئيس الحركة، كما وقع الاتفاق وزير الدولة للشؤون الخارجية القطرية "جبريل باسولي" الوسيط المشترك للأمم المتحدة والاتحاد الإفريقي. حضر التوقيع سفراء الدول دائمة العضوية في مجلس الأمن الدولي، وسفراء دول جوار السودان. ويؤسس هذا الاتفاق لمفاوضات لاحقة أكثر عمقاً وتفصيلاً، تطال ملف دارفور وقضايا أخرى خلافية. وكان التوصل لاتفاق حسن النوايا بعد تجاوز الإشكالات المتعلقة بتبادل الأسرى، بين الحكومة السودانية والمعارضين المسلحين. ومن المقرر أن تدخل المرحلة الثانية من الاتفاق حيز التنفيذ على الفور، حيث سيظل ممثلو الأطراف في الدوحة لاستكمال المشاورات للتوصل إلى سلام في الإقليم.

ومن ناحيته أكد المبعوث المشترك للأمم المتحدة والاتحاد الإفريقي لدارفور "جبريل باسولي"، في مؤتمر صحفي، على أن توقيع اتفاق حسن النوايا وبناء الثقة يبرهن على إرادة الطرفين، في التوصل لحل سياسي للتعامل مع جذور النزاع. وشدد على أن الحكومة السودانية وحركة العدل والمساواة يوليان أهمية كبرى لبلدهما السودان، ويدركان أهمية استقراره، مضيفا أنه "رغم النزاع المسلح بين الجانبين فأنا مقتنع أن كلا منهما يرغب في رؤية سودان مستقر ومزدهر يعمه الرخاء". وأكد الوسيط المشترك أن عملية الوساطة ستستمر، بمصاحبة جهود الجميع في سبيل التوصل إلى السلام والمصالحة. مشيراً إلى أنه سيلتقي ممثلي الأطراف المعنية بسلام دارفور بالدوحة، لتمهيد الأجواء لاتفاق سلام نهائي. كما أكد باسولى ضرورة إحلال سلام دائم في السودان، وأنه كوسيط سيكثف من جهوده مع الحركات المسلحة الأخرى في دارفور ومع المجتمع المدني، حتى لا يشعر أحد في السودان بأنه مستثنى أو مهمش. وناشد قطر تقديم مساعدات إنسانية لتخفيف معاناة النازحين والمهجرين وضحايا الحرب في دارفور. كما أهاب بالمجتمع الدولي والدول المجاورة للسودان استمرار دعمها لعملية السلام، بما يسهم في إنجاح المحادثات اللاحقة بالدوحة. وناشد الأطراف الأخرى المعنية في السودان الانضمام إلى هذه المبادرة بالدوحة، من أجل إحلال السلام في السودان.

4. أولويات تحقيق السلام الشامل والمستدام في دارفور، وفقاً لإعلان الدوحة

أ. ضرورة تمثيل المرأة في كل مستويات السلطة.

ب. صناعة السلام تتطلب إرادة قوية وثقة متبادلة.

ج. النزاع في دارفور صراع سياسي تنموي واجتماعي.

د. خلق فرص عمل وبناء القدرات للعاملين من أبناء الإقليم.

هـ. اعتماد تدابير تضمن المشاركة العادلة لأبناء دارفور في السلطة، على المستويات المحلية والولائية والإقليمية والقومية.

وكانت بعض اللقاءات التشاورية وحلقات العمل قد انعقدت في عواصم ولايات دارفور الثلاث. وقد تناولت تلك الحوارات الموضوعات الآتية:

·  الترتيبات الأمنية ونزع السلاح.

·  وتقاسم الثروة والتنمية الاقتصادية والاجتماعية.

·  وترتيبات تقاسم السلطة.

·  والعدالة والمصالحة والعودة.

·  وقضايا الأرض والمسارات الرعوية.

·  ودور المجتمع المدني في عملية سلام دارفور.

وقد توصل المؤتمرون إلى الأطر الآتية:

(1) النزاع في دارفور هو صراع سياسي تنموي واجتماعي، وله تاريخ طويل، إذ إن دارفور ومنذ استقلال السودان الذي تحقق في عام 1956، ظلت مهمشة، ولم تنل نصيبها في السلطة والثروة والتنمية الاجتماعية والاقتصادية، بما يتناسب مع الكثافة السكانية للإقليم، (والبعد الإقليمي) وإسهاماته في دعم الاقتصاد والناتج القومي.

(2) الحرب التي دارت رحاها في دارفور خلال السنوات الأخيرة أدت إلى تعقيد الأمور، وحولت المشكلة إلى كارثة، نتج عنها، إضافة إلى القتل والنزوح واللجوء والتشريد، تدمير شبه كامل للبنيات الأساسية من مياه وصحة وتعليم وطرق ومشروعات تنموية.. إلخ، والتي كانت محدودة أصلاً، ولا تتناسب مع الاحتياجات الفعلية لسكان الإقليم. إضافة إلى العوامل الطبيعية من جفاف وتصحر، والتي زادت من معاناة المواطنين، وأسهمت في زيادة التوترات، ونشوب المزيد من النزاعات.

(3) الوضع الراهن في دارفور لا يطاق؛ فقد أدخل الإقليم في نفق مظلم شغل العالم، ولابد من تضافر الجهود لإخراج دارفور من محنتها. ويكمن الحل، حسب رؤية المجتمع المدني الدارفوري، في نبذ العنف والحرب، ولابد من الحوار والتفاوض السياسي الجاد بين أطراف النزاع، بمشاركة مكونات المجتمع المدني الدارفوري كافة، للوصول إلى حل عادل لسلام شامل ومستدام يسهم في رفع الغبن وتجاوز المرارات، ويرد الحقوق لأهلها، ويساعد في إعادة الثقة بين الأفراد والجماعات، ويعيد دارفور إلى سيرتها الأولى، كإقليم يسع الجميع، وكأنموذج متفرد للهوية السودانية الجامعة، يسمو فوق القبلية والعنصرية والإثنية والجنس واللون.

(4) من أسباب فشل الحلول السابقة لمشكلة دارفور تجاهل دور المجتمع المدني، واختزال المشكلة بين الحكومة وحاملي السلاح. واستشعاراً للدور الوطني، والمسؤولية التاريخية تجاه قضية الإقليم والوطن، فقد عزم المجتمع المدني الدارفوري أن يأخذ بزمام المبادرة، ويسهم بفعالية في كل مراحل عملية السلام، كشريك أساسي وحيوي وإستراتيجي لا يمكن تجاوزه.

5. المبادئ الأساسية لاتفاق الدوحة

المبادئ الأساسية لوضع اتفاق الدوحة موضع التنفيذ، هي كما يلي:

أ. دارفور جزء من السودان الواحد الموحد، وسيظل يعمل بكل مكوناته من أجل تحقيق السلام العادل والتنمية المستدامة، في كل ربوع السودان.

ب. قضية دارفور قضية سياسية ذات أبعاد اجتماعية واقتصادية، لا يمكن حلها إلا بالحوار الجاد بين أبناء الوطن.

ج. وحدة أبناء دارفور ضرورية لتحقيق السلام واستدامته عبر إرادة حقيقية، تعبر عن تراضي مكونات دارفور الاجتماعية.

د. السلام الاجتماعي القائم على التعايش السلمي يشكل أرضية صلبة ينهض عليها السلام السياسي الشامل، و هو أمر لا يتحقق إلا بمشاركة المجتمع المدني الدارفوري.

هـ. صناعة السلام تتطلب إرادة قوية وثقة متبادلة واعتصاماً بما يجمع ولا يفرق، ويبني لا يهدم، وأن يضع الجميع المصلحة العامة للبلاد والعباد فوق أي اعتبار.

و. الأمن حالة نفسية يستشعرها الإنسان في قرارة نفسه وأسرته والمجتمع من حوله، ومن ثم قبل وجود القوات النظامية اللازمة لتوافر الأمن، ينبغي توافر المناخ الملائم الذي يشيع الطمأنينة بين المواطنين.

6. الرؤى والمقررات في اتفاق الدوحة

تضمن اتفاق الدوحة عدداً من الرؤى والمقررات، يمكن الإشارة إليها كالآتي:

أ. الترتيبات الأمنية ونزع السلاح

يجب أن تتضمن الترتيبات الأمنية بين الحكومة والحركات المسلحة، ما يلي:

(1) قبل توقيع اتفاقية السلام

(أ) الوقف الفوري لإطلاق النار يلتزم به الطرفان التزاما كاملا، وتحديد آليات فاعلة ومستقلة، وفقاً لإطار سياسي للتفاوض متفق عليه.

(ب) وقف الأعمال العدائية بكافة أشكالها، بما في ذلك الإعلام السالب.

(ج) عدم التعرض غير القانوني للنازحين وعدم التضييق الأمني على المعسكرات، مع ضرورة تسهيل انسياب حركة الأفراد والمؤن والمدخلات الاقتصادية والخدمية للمعسكرات.

(د) تأمين مسارات العون الإنساني وتسهيل انسياب الدعم للمتضررين والمحتاجين، في المناطق كافة.

(هـ) ضرورة عدم تجنيد الأطفال وعدم إشراكهم في العمليات العسكرية، والتزام الأطراف بالاتفاقيات والمواثيق الدولية ذات الصلة.

(2) إجراءات ما بعد توقيع اتفاقية السلام في اتفاق الدوحة

(أ) اعتماد خطط وتدابير تعالج وضع قوات الأطراف المتصارعة على الأرض بعد السلام، مثل ترتيبات التسريح، والدمج، وإعادة التأهيل، ووضع النساء المحاربات، وسحب الدعم عن المعارضات الخارجية، ونشر قوات الأمم المتحدة مع دول الجوار.

(ب) الجمع المتزامن للسلاح من كل الأطراف، عدا القوات النظامية المنشأة بموجب الدستور، وذلك بمشاركة كل الأطراف المعنية، بمساعدة زعماء القبائل وقيادات الإدارة الأهلية وقوات اليوناميد، وتحفيز المبادرين بتسليم سلاحهم طوعاً ممن لم تثبت إدانتهم في جرائم حرب أو انتهاكات لحقوق المواطنين، وتفعيل القوانين التي تنظم حيازة السلاح، والآليات التي تراقب ذلك وتحاسب المتفلتين.

(ج) تفعيل دور القيادات والإدارات الأهلية على كافة المستويات، بما في ذلك معسكرات النازحين، مع ضرورة رد الصلاحيات القانونية والإدارية والمالية لهذه القيادات والإدارات لتقوم بدورها الرائد في حفظ الأمن والتعامل مع الإنفلاتات الأمنية في مناطقها، وفق الضوابط والنظم الأهلية المتعارف عليها في دارفور، وفقاً لقانون يراعي خصوصية دارفور.

(د) اعتماد تدابير أمنية فاعلة ومسؤولة لحماية النازحين في المعسكرات، بواسطة قوات اليوناميد وبمساعدة الإدارات الأهلية للنازحين في المعسكرات. وتأمين الحماية للنازحين عند العودة، بواسطة إداراتهم الأهلية بمعاونة قوات الشرطة الموحدة وقوات اليوناميد، إضافة إلى قوات الجيش، إذا تطلب الأمر ذلك.

(هـ) إلغاء النظام الشرطي القائم في الولايات التي لا ترغب في استمرار هذا النظام، وإسناد دوره لقوات الشرطة الموحدة لتقوم بحماية المسارات والمراحيل، بالتعاون مع الإدارات الأهلية للكيانات الاجتماعية المعنية.

(و) تفعيل الاتفاقيات الأمنية بين السودان ودول الجوار لضبط الحدود، والعمل المشترك لوقف الحروب والنزاعات، مع ضرورة اعتماد آليات فاعلة لمتابعة تنفيذ الاتفاقيات، وتحميل الأطراف مسؤولياتها.

(ز) اعتماد تدابير تعالج الأوضاع الأمنية للاجئين تؤمن سلامة إقامتهم في دول الجوار، وكذلك سلامة عودتهم لمناطقهم، بعد أن يتحقق السلام.

(ح) اعتماد تدابير شاملة ومتكاملة لإصلاح الأجهزة الأمنية، لتكون قومية وفاعلة ومسؤولة وخاضعة للمحاسبة والتقويم، وموثوقاً بها من قبل المواطنين.

(ط) تضمين برامج وآليات للتنمية الاقتصادية في اتفاقية سلام دارفور، وتوافر بدائل معيشية لمن وضعوا السلاح ممن لم تثبت إدانتهم في انتهاكات أو جرائم حرب، وكذلك للعاطلين عن العمل، والفاقد التربوي حتى لا يضطروا إلى حمل السلاح.

(ي) تضمين إستراتيجيات وآليات في اتفاقية سلام دارفور وبرامج لنبذ العنف، ونشر ثقافة السلام، ورتق النسيج الاجتماعي والتعايش السلمي، بين مكونات دارفور الاجتماعية.

(ك) توافر موارد وآليات لتقديم الدعم المالي واللوجستي والفني، لتنفيذ الترتيبات الأمنية ومراقبة التزام الأطراف بها.

(ل) يكون للمجتمع المدني دور فاعل وتمثيل مناسب في كل الآليات واللجان، التي تشرف على إنفاذ ما ذكر أعلاه، وتتاح له الحرية الكاملة للنقد البناء ونشر الحقائق، دون حجر أو وصاية من أحد.

(3) تقاسم الثروة والتنمية الاقتصادية والاجتماعية، في اتفاق الدوحة

يمثل الثقل السكاني لإقليم دارفور المعيار لتقاسم الثروة والتنمية الاقتصادية والاجتماعية وتطوير الخدمات، في أي اتفاقية تتعلق بدارفور، مع مراعاة التمييز الايجابي والتأكيد على ضرورة تنفيذ مشروعات إستراتيجية تنموية كبيرة، ذات طابع قومي خلال العامين القادمين، مثل إنفاذ ما تبقى من طريق الإنقاذ الغربي، وربط دارفور بالشبكة القومية للكهرباء؛ وذلك للأثر الإيجابي الكبير الذي ستحدثه مثل هذه المشروعات في حياة الناس، وفي تعميق الشعور بالقومية، وإزالة الإحساس بالتهميش. وفي هذا الشأن يكون التركيز على ما يلي:

(أ) يشدد المجتمع المدني على ضرورة إعادة العمل بنظام الداخليات في المدارس، خاصة في مناطق التداخل الزراعي ـ الرعوي.

(ب) ضرورة تنفيذ مشروعات تنموية تلبي الاحتياجات المحلية لعملية السلام، على المدى القصير والمتوسط، تحت إشراف كوادر وخبرات من دارفور، بمساعدة بيوت الخبرة القومية والعالمية، مثل:

·   ربط ولايات دارفور بخطوط السكك الحديدية والطرق المعبدة والجسور.

·   تكملة مطار الجنينة وإنشاء مطارات حديثة في ولايات دارفور.

·   وضع برامج وآليات لتمكين المرأة ودعم الأيتام والأرامل والمسنين في المجتمع، ورعاية الأمومة والطفولة.

·   استغلال الموارد الطبيعية في ظاهر الأرض وباطنها.

·   تخصيص حصة عادلة من الموارد البترولية لدارفور.

·   تشجيع الاستثمار الخارجي والسياحة في دارفور، وتجارة الحدود.

·   الاستخدام الأمثل للموارد المتاحة ومشاركة دارفور في موارد البترول، وكل الموارد القومية الأخرى.

·   خلق فرص عمل وبناء القدرات للعاملين من أبناء دارفور.

·   على المجتمع الدولي دعم التنمية في الإقليم.

·   يؤكد المجتمع المدني الدارفوري على ضرورة أن تفي الحكومة السودانية، والأمم المتحدة، الاتحاد الأوروبي، والولايات المتحدة والدول المانحة، والمجتمع الدولي بصفة عامة، بالالتزامات تجاه عملية السلام، وإعادة الإعمار والتنمية في دارفور. مع أهمية اعتماد آليات لتنفيذ وتقويم ومراقبة ما تم الاتفاق عليه.

·   يؤكد المجتمع المدني على أن للقيادات والمجتمعات الدارفورية دوراً حيوياً، بصفتها شريكاً في عمليات الإعمار والتنمية، مثل تهيئة المناخ للعمل التنموي، وتحريك وتحفيز المواطنين للمشاركة والإسهام الإيجابي في المشروعات التنموية، وحماية مشروعات وموارد التنمية من المخربين... الخ.

·   العمل على إنشاء مؤسسة مستقلة للتنمية الاقتصادية وإعادة الإعمار لدارفور.

·   أن تشمل اتفاقية السلام الشاملة لدارفور فصلاً خاصاً بعمليات إعمار دارفور.

·   يشدد المجتمع المدني على ضرورة إعادة العمل بنظام الداخليات في المدارس، خاصة في مناطق التداخل الزراعي - الرعوي.

·   يشدد المجتمع المدني على ضرورة دعم الجامعات في دارفور، والاستمرار في سياسة إعفاء طلاب دارفور بالجامعات القومية من رسوم الدراسة والداخليات، على أن تتحمل الحكومة القومية النفقات.

(4) ترتيبات تقاسم السلطة في اتفاق الدوحة

(أ) ضرورة اعتماد تدابير تضمن المشاركة العادلة لأبناء وبنات دارفور في السلطة، على المستويات المحلية والولائية والإقليمية والقومية.

(ب) ضرورة تضمين معايير علمية وقياسية عادلة يُهتدى بها في إنشاء الولايات والمحليات والوحدات الإدارية، لضمان فعالية مشاركة المواطنين، دون تمييز قبلي أو اثني أو جهوي أو سياسي.

(ج) يجب تمثيل دارفور في مؤسسة الرئاسة، والوزارات الاتحادية السيادية، وأجهزة الخدمة المدنية والأجهزة التشريعية، والسلك الدبلوماسي والقضائي، وقيادات الأجهزة الأمنية، والمفوضيات والمؤسسات الاقتصادية القومية، بما يتناسب مع الكثافة السكانية والثقل الاقتصادي للإقليم مع التميز الايجابي.

(د) يجب إسناد مهام إدارة الأجهزة الأمنية إلى الكوادر المؤهلة من أبناء وبنات دارفور.

ثانياً. الأزمة القانونية بين الحكومة السودانية والمحكمة الجنائية الدولية بشأن أزمة دارفور

تعد الأزمة القانونية بين الحكومة السودانية، وتحديدا فيما يتعلق بسياسات وممارسات النظام الحاكم القائم في السودان وعلى رأسه الرئيس "عمر أحمد حسن البشير"، وبين المحكمة الجنائية الدولية بلاهاي[2] واحدة من الأزمات التي تواجه ليس مجرد شخص الرئيس البشير فحسب، وإنما سيادة واستقلال الدولة السودانية. وقد تطورت واستفحلت هذه الأزمة بين السودان والمحكمة الجنائية الدولية، منذ عام 2004، على خلفية الأزمة الإنسانية في دارفور، ومزاعم اهتمام الحكومات الغربية، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية، وبريطانيا، وفرنسا، بتلك الأزمة. وقد وصلت المجابهة بين السودان، من جانب، والمحكمة الجنائية الدولية، من جانب آخر، إلى ذروتها في 14 يوليه 2008، وذلك حين طلب المدعى العام للمحكمة 'لويس مورينو أوكامبو، في 14 يوليه 2008، من قضاة المحكمة أن يصدروا أمراً باعتقال الرئيس السوداني "عمر البشير"، لاتهامه بارتكاب جرائم دولية في إقليم دارفور، وهي: جرائم الإبادة الجماعية، وجرائم دولية ضد الإنسانية، وجرائم حرب. ويمكن بلورة تلك الأزمة فيما يلي:

1. قرار مجلس الأمن الرقم 1593 الخاص بدارفور

أحال مجلس الأمن الحالة في دارفور إلى المدعى العام للمحكمة الجنائية الدولية. وفى هذا الصدد، يجب الإشارة إلى أن قرار الإحالة، الذي صدر عن مجلس الأمن، وهو القرار الرقم 1593، ليس واجب النفاذ مباشرة تجاه المدعى العام، فهو فقط لفت انتباه المدعى العام للمحكمة إلى وقائع قد تستلزم إجراء التحقيق، وما يقدمه ذلك التحقيق من أدلة كافية هو ما يشكل أساسا معقولا للمحاكمة. فإذا ثبت للمدعى العام للمحكمة أنه لا توجد ثمة جريمة من أركان الجرائم الواردة في ميثاق المحكمة، جاز له عدم الاعتداد بقرار مجلس الأمن ورفضه. فقرار مجلس الأمن بالإحالة، وإن كان صدر بموجب الباب السابع من ميثاق منظمة الأمم المتحدة، لا يختلف، بحال من الأحوال، في إنتاج آثار قانونية مختلفة تجاه المدعى العام، في حالة ما إذا كانت دولة طرف في النظام الأساسي قد أحالت قضية إلى المدعى العام للمحكمة.

وفى سبيل إثبات الحقيقة، يجرى المدعى العام التحقيقات اللازمة، بما في ذلك إجراء تحقيقات في إقليم أي دولة طرف، على النحو الذي تأذن به دائرة ما قبل المحاكمة، وله أن يجمع ويفحص ويقيم الأدلة، وأن يطلب حضور الأشخاص محل التحقيق والمجني عليهم والشهود وأن يستجوبهم، وأن يحافظ على سرية المعلومات التي يحصل عليها، وأن يتخذ التدابير اللازمة لكفالة سرية المعلومات التي يحصل عليها، أو لحماية الشهود أو المتهمين أو المجني عليهم، أو للمحافظة على الأدلة التي حصل عليها.

وفيما يتعلق بالتزام دولة السودان - بوصفها غير طرف في نظام المحكمة الجنائية - بالتعاون مع المحكمة الجنائية الدولية، فإنه يلزم إدراك أن مجلس الأمن ـ ووفقاً للقرار الرقم 1593 ـ هو الذي أحال الحالة في دارفور إلى المدعى العام للمحكمة الجنائية الدولية، وذلك لتحقيق السلم والأمن الدوليين في إقليم دارفور، وذلك عن طريق إقرار العدالة هناك بواسطة المحكمة الجنائية الدولية، وأن الدول الأعضاء في منظمة الأمم المتحدة ملتزمة ـ وفقاً للمادة 25 من ميثاق المنظمة ـ بجميع القرارات التي تصدر عن مجلس الأمن. ونتيجة لذلك، فإن مجلس الأمن يستطيع، حين يحيل حالة إلى المدعى العام للمحكمة، أن يطلب من كل الدول الأعضاء في الأمم المتحدة أن تتعاون مع المدعى العام للمحكمة. وقد تضمن القرار 1593 أن حكومة السودان، وكل الأطراف الأخرى في النزاع في دارفور، عليها الالتزام بالتعاون كلياً، وتقديم جميع المساعدة الضرورية للمحكمة والمدعى العام وفقاً لذلك القرار.

ويتوجب في هذا الشأن التزام الدول غير الأطراف في النظام الأساسي للمحكمة بالتعاون، وفقاً للقانون الدولي، حيث يرتكز نجاح المحكمة الجنائية الدولية، في أداء وظائفها وإنجازها لأهدافها، على مدى تعاون الدول أطراف النظام الأساسي، وأيضاً، الدول غير الأطراف في المحكمة. ويعد تعاون الدول مع المحكمة أمراً مهماً للغاية. ويرجع ذلك إلى أن المحكمة - خلافا للمحاكم الوطنية - لا تمتلك قوة شرطية بموجب اختصاصها القضائي، ولا تحوز أيضا قوات مسلحة تابعة لها. فإذا كانت المحكمة تستطيع أن تصدر أوامر باعتقال المتهمين بارتكاب الجرائم الدولية المعّرفة في نظامها الأساسي، وملاحقة هؤلاء المتهمين، فإنها تعجز عن أن تتخذ إجراءا قضائيا مثل القبض على المتهمين بارتكاب هذه الجرائم. كما أنها تعتمد، خلال مباشرة المحكمة للتحقيقات والتحقيق في القضايا، تعتمد على تعاون الدول في أمور عدة، مثل المساعدة في إجراء التحريات، وجمع الأدلة، وإجراءات الاعتقال، ونقل المتهم، وتنفيذ الأحكام القضائية. ووفقاً لميثاق المحكمة الجنائية الدولية، وفى ظل افتقارها لوسائل عسكرية، فإن تعاون دولة غير طرف في النظام الأساسي للمحكمة مع المحكمة، غير متصور إلا في ظل ضغوط خارجية تجاه هذه الدولة، مثل إتباع سياسة التحفيز والترهيب.

ويبدو أن رفع دعوى عاجلة أمام محكمة العدل الدولية هي الطريق الأجدى والأكثر فعالية. دعوى موضوعها النزاع بين المحكمة الجنائية والسودان حول تفسير المعاهدات الدولية، وأهمها نظام روما نفسه وميثاق الأمم المتحدة واتفاقية فينيا لقانون المعاهدات. ويحرص السودان بذلك على التطبيق الصحيح للقانون الدولي، وعلى الفكرة النبيلة التي نشدها واضعو نظامها، ومن بينهم السودان نفسه الذي اشترك مع دول العالم الثالث في مؤتمر روما الدبلوماسي عام 1998، وعانوا من المناورات الأمريكية، التي أوهمت الجميع أن الاستجابة لتعديلاتها لنظام روما، خاصة المواد 13، 16، 98، سوف يشجع واشنطن على الانضمام للمحكمة الوليدة. ولم يدرك أحد أن واشنطن وضعت أدوات إخضاع الدول الأخرى من العالم الثالث، على الرغم من عداء واشنطن المعروف للمحكمة الجنائية ومناهضتها لها، بل وعداؤها لكل نظام دولي لا يتفق مع رغباتها.

وتتوافر للسودان كل الشروط القانونية المطلوبة لرفع الدعوى، غير أن أهم مزاياها القانونية هو وقف تنفيذ قرار ملاحقة الرئيس البشير. ذلك أن السودان عند رفع الدعوى يطلب من المحكمة أن تصدر أمراً تحفظياً عاجلاً لوقف تنفيذ قرار المحكمة الجنائية الدولية، لحين الفصل في موضوع الدعوى. أما دواعي السودان التي يبديها لدعم هذا الطلب، فهي أن تنفيذ الحكم سيؤدى إلى اضطراب السلم والأمن الدوليين، وتهديد السلامة الإقليمية للسودان والمنطقة، وإهدار قواعد قانونية أساسية في إدارة العلاقات الدولية، فضلاً عن أن القرار إساءة لسيادة السودان وشعبه، ويهدر فرص التسوية السياسية لمشكلة دارفور، بل إن بقاء القرار قد يغرى بعض الدول بارتكاب مخالفات قانونية جسيمة ضد السودان. يضاف إلى ذلك أن القرار يربك الأعمال الإنسانية لمعالجة آثار الوضع الإنساني، كما يشجع المتمردين على التمادي في الصراع وتهديد سلامة دولة عضو في الأمم المتحدة بالخطر. وأخيراً، فإن القرار ابتزاز للسودان؛ لأنه يهدف إلى امتثال السودان لقرار خاطئ سابق ضد "احمد هارون" و"علي كوشيب"، والتدخل في الشؤون الداخلية السودانية. بطبيعة الحال، فإن لمحكمة العدل الدولية مطلق النظر في اتخاذ قرار لفرض إجراءات تحفظية مطلوبة أو غير مطلوبة، أو تمتنع عن التجاوب مع الطلب السوداني، وذلك بموجب السلطة الممنوحة لها في المادة 41 من نظامها الأساسي، وهو جزء من ميثاق الأمم المتحدة.

ومن الجدير بالذكر أن طلبات السودان جميعا تدور حول مسائل قانونية، تختص بها المحكمة من النظرة الأولى. وهى شروط أساسية يجب توافرها لاتخاذ قرار الإجراءات التحفظية، وهى إجراءات لا تؤثر على صلب موضوع النزاع، ولا تمس حقوق أطراف النزاع؛ ولكن ربما يكون الجديد هو أن تعرض أحكام المحكمة الجنائية أمام المحكمة العالمية وكأنها محكمة استئناف، خاصة وأن بالمحكمة الجنائية الدولية غرفة المحاكمة وغرفة الاستئناف، ويجوز الاستئناف على حكم الاختصاص والمقبولية. ولكن الحق أن لدعوى السودان وجاهة أخرى، وهى أن المحكمة الجنائية قد استنفدت سلطتها بالفعل لموقفها من القيمة القانونية لإحالة مجلس الأمن الدعاوى إلى المحكمة الجنائية، فهو قرار نهائي ولن تتعرض له دوائر المحكمة الأخرى. ولا يحسن بالسودان أن يتعرض لمدى وجاهة مساءلة الرئيس من عدمه، أو ما إذا كانت التهم الموجهة إليه صحيحة أم فاسدة، ولكن عليه التركيز في طلب فرض الإجراءات التحفظية على وزن المصالح والأضرار، التي يحققها قرار الجنائية؛ فإذا كان القرار يتوخى العدل، فان السلام والأمن مقدمان على العدل، وهو جزء من فلسفة ميثاق الأمم المتحدة، مادام العدل حالة معنوية، بينما السلم والأمن واقع مادي ملموس.

2. طلب المدعى العام للمحكمة اعتقال الرئيس البشير

كان المدعى العام للمحكمة الجنائية قد تسلم ملف دارفور من الأمين العام للأمم المتحدة، وذلك إثر صدور قرار مجلس الأمن رقم 1395 في 31 مارس 2005، والذي أكد المجلس فيه أن العدالة والمساءلة مهمان، لتحقيق سلام دائم في دارفور. وبدأ في دراسة الملف الذي يحوي محفوظات ووثائق "لجنة كاسيوس"، وهى لجنة التحقيق الدولية لمجلس الأمن، التي أرسلها إلى دارفور في 1 أكتوبر 2004. واستجوب المدعي العام أكثر من خمسين خبيراً مستقلاً. وجمع (حصل على) إفادات وأدلة أثناء 105 مهمات، أجراها المدعي العام في 18 دولة. حيث فحص أدلة الإثبات وأدلة النفي، وذلك وفق زعم المدعى العام، بطريقة محايدة ومستقلة،. وحتى يخلص المدعى العام إلى أن الرئيس البشير ارتكب الجرائم الواردة في طلب الاعتقال إلى دائرة ما قبل المحاكمة، فقد أسس استنتاجه هذا بشكل أساسي على إفادات شهود العيان، وضحايا الهجمات في دارفور، والمقابلات التي جرى تسجيلها مع مسؤولين حكوميين، وإفادات من أفراد لديهم علم أو معرفة بأنشطة المسؤولين الحكوميين في السودان، وممثلين عن الحكومة، وميليشيات الجنجويد. وكذلك الأدلة الوثائقية والمعلومات الأخرى التي قدمها للمدعي العام مسؤولون حكوميون بناء على طلب المدعى العام. وكذلك تقرير لجنة التحقيق الدولية التابعة للأمم المتحدة، والتي أرسلها مجلس الأمن لدارفور عام 2004، وتقرير لجنة التحقيق الوطنية السودانية، ووثائق ومواد أخرى أمكن الحصول عليها من مصادر متاحة.

وقد قدّم "لويس مورينو أوكامبو"، المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية، الأدلة التي تبرهن على أن الرئيس السوداني "عمر حسن أحمد البشير"، ارتكب جرائم الإبادة الجماعية، والجرائم ضد الإنسانية، وجرائم الحرب في دارفور. فبعد مرور أكثر من ثلاث سنوات على طلب مجلس الأمن التحقيق في دارفور، واستناداً إلى الأدلة، يرى المدعي العام أن ثمة مبررات معقولة للاعتقاد بأن عمر حسن أحمد البشير يتحمل المسؤولية الجنائية فيما يخص التهم الموجهة بارتكاب جرائم الإبادة الجماعية، والجرائم ضد الإنسانية، وجرائم الحرب. وأن الأدلة التي قدمها المدعي العام تبين أن البشير دبر ونفذ خطة لتدمير جزء كبير من مجموعات الفور، والمساليت والزغاوة، لأسباب إثنية.

وقد أثار طلب المدعي العام "لويس مورينو أوكامبو" لدائرة ما قبل المحاكمة للمحكمة الجنائية الدولية في لاهاي، يوم 14 يوليه 2008، باعتقال الرئيس السوداني "عمر البشير"، كثيراً من الخلط والقلق اللذين تجاوزا الاهتمام الإقليمي في الساحة العربية إلى النطاق العالمي. وعلى الرغم من أن طلب اعتقال الرئيس البشير، من جانب المدعى العام للمحكمة الجنائية، لم يكن مستبعداً، وفق مجريات الأحداث وتطورات الضغوط والمواقف في دارفور منذ عام 2004، حين أولى مجلس الأمن اهتمامه بالحالة في دارفور. ولعل الأمر المثير للجدل أن طلب اعتقال الرئيس البشير هو طلب الاعتقال الأول في تاريخ المحكمة الجنائية الدولية لرئيس دولة، وهو في سدة الحكم، بما يمثله ذلك من تطور في القانون الدولي الجنائي، وما يمثله أيضا من تجاوز لمبدأ مهم، بل وركيزة، من مبادئ القانون الدولي العام، والعلاقات الدولية، وهو مبدأ سيادة الدولة. كذلك، زاد من قلق واهتمام القانونيين داخل المحكمة الجنائية الدولية ذاتها، وخارجها، أن المدعى العام في طلبه هذا لدائرة ما قبل المحاكمة، لم يذكر إلا الرئيس البشير، وحسب، مما يثير التساؤل لدى هؤلاء، ويثير اتهام الرئيس البشير ـ وفقا لادعاء أوكامبو بارتكاب جرائم دولية خطيرة في دارفورـ مسألة قانونية هامة، ومنها:

أ. المسؤولية القيادية عن ارتكاب الجرائم الدولية

يتضمن النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية أركان المسؤولية الجنائية الفردية في المادة 25. وبموجب هذه المادة، فإن الشخص يكون مسؤولاً جنائياً عن السلوك الذي يتضمن الجريمة الداخلة ضمن اختصاص المحكمة، بغض النظر عن ارتكابها بشكل فردى أو جماعي. وفى حالة إذا كان ذلك الشخص قد أمر أو أغرى بارتكاب، أو حث على ارتكاب، جريمة وقعت بالفعل أو شرع فيها. أو قدم العون أو حرض أو ساعد بأي شكل آخر لغرض تيسير ارتكاب هذه الجريمة أو الشروع في ارتكابها.

وتجدر الإشارة إلى أن "لويس مورينو أوكامبو"، أوضح أن الأدلة تبين أن البشير، بدلا من مساعدة أهل دارفور، عبأ جهاز الدولة بأكمله، بما في ذلك القوات المسلحة، وجهاز الاستخبارات، والدوائر الدبلوماسية والإعلامية، والجهاز القضائي، من أجل إجبار الأشخاص الذين يعيشون في مخيمات المشردين داخلياً، ومعظمهم من المجموعة المستهدفة، على العيش في ظروف مدروسة لتدميرهم جسدياً. وأضاف قائلاً "إن البشير هو الرئيس. وهو القائد الأعلى. لقد استعمل جهاز الدولة بأكمله. واستخدم الجيش، وجند مليشيا الجنجويد. إن هذه الأجهزة جميعا تحت مسؤوليته، وهي كلها تطيعه. إنه يتمتع بسلطة مطلقة". وستنظر الدائرة التمهيدية الأولى الآن في الأدلة، وإذا رأى القضاة أن هناك مبررات معقولة تدعو إلى الاعتقاد بأن الشخص المسمى قد ارتكب الجرائم المزعومة، فستقرر ما هي أنجع السبل لامتثاله أمام المحكمة. وقد طلب المدعي العام إصدار أمر بإلقاء القبض على الرئيس السوداني.

ب. المسؤولية الجنائية

تكمن إشكالية الأزمة بين النظام حاكم قي السودان والمحكمة الجنائية الدولية، في أن الادعاءات بالمسؤولية الجنائية ليس بالإمكان تجنبها بادعاء الصفة الرسمية لمرتكب الجريمة، أو أي مدد زمنية لسقوط الجريمة بالتقادم. أو الخطأ في القانون، ما لم يكن هذا الخطأ مخالفا للركن المعنوي. وتلتزم الدول، بموجب قواعد القانون الدولي الإنساني، بأن تقاضى الأشخاص الذين يرتكبون انتهاكات جسيمة، علاوة على الأشخاص الذين يأمرون بارتكابها أيضا. وترد هذه القاعدة الدولية في النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، والمحكمة الدولية ليوغوسلافيا السابقة، والمحكمة الجنائية الدولية لرواندا، والمحكمة الجنائية الخاصة لسيراليون، وفى لائحة الإدارة الانتقالية للأمم المتحدة في تيمور الشرقية، وجميعها تنطبق على النزاعات المسلحة الدولية وغير الدولية. وتؤكد العديد من السابقات القضائية الوطنية، منذ الحرب العالمية الأولى وحتى اللحظة الآنية، إسناد المسؤولية القيادية للرؤساء وغيرهم، حين يرتكب مرؤوسوهم جرائم الحرب تبعا لأوامرهم.

ومن جانبها، نفت المتحدثة باسم محكمة الجنايات الدولية "سونيا روبلا" في 12 فبراير 2009، أن تكون المحكمة أصدرت مذكرة تقضي بتوقيف الرئيس السوداني عمر حسن البشير. كما ذكرت "ماريا أوكابي"، الناطقة باسم الأمين العام للأمم المتحدة، أن "بان كي مون" لم يبلغ بصدور أي مذكرة اعتقال من المحكمة الدولية بحق الرئيس السوداني "عمر حسن البشير"، واتهامه بارتكاب جرائم حرب في دارفور. والجدير بالذكر أن "لويس مارينو أوكامبو"، مدعي عام المحكمة الجنائية الدولية، طلب من قضاة المحكمة إصدار قرار بإيقاف البشير بتهم ارتكاب جرائم حرب في إقليم دارفور. وكان "عبد المحمود عبد الحليم"، سفير السودان لدى الأمم المتحدة، قد حذر مما سماه "الانعكاسات الخطيرة"، لصدور مذكرة اعتقال بحق الرئيس السوداني، على السلام والاستقرار في السودان. وقد أطلقت الخرطوم تحذيرات جديدة مع ترقب إصدار محكمة الجنايات الدولية مذكرة اعتقال بحق الرئيس السوداني، بناء على طلب المدعي العام "لويس مورينو أوكامبو" الذي وجه إليه اتهامات عام 2008 بالمسؤولية عن الإبادة وارتكاب جرائم حرب في دارفور عام 2003.

لا خلاف بين فقهاء القانون والقضاء العربي والدولي على أن مذكرة اعتقال البشير سياسية بحتة، ولا تكتسب أي صفة قانونية، وأنه لا يحق للمحكمة الجنائية الدولية من الأساس مساءلة البشير أو محاكمته؛ لأن السودان ليست طرفاً في المعاهدة التي أنشأت هذه المحكمة. ومن ثم، فإن قرار أوكامبو بالقبض على الرئيس "عمر البشير" ومحاكمته أمام المحكمة الجنائية الدولية، التي أنشأتها هذه المعاهدة، هو طلب مخالف لقواعد القانون الدولي؛ لأنه من المقرر والثابت في قواعد القانون الدولي ـ بغير خلاف ـ أن المعاهدات الدولية لا تسري إلا على الدول الأطراف فيها، وأنه لا يمكن إجبار دولة على الالتزام بأحكام معاهدة، أو الخضوع لها، دون أن تكون طرفًا فيها. إن القاعدة المستقرة في القانون الدولي منذ عدة قرون هي أن سيادة الدولة مطلقة، وأن الدول لا تلتزم إلا بإرادتها. وقد حفظ ميثاق الأمم المتحدة لكل دولة حق مواجهة أي تهديدات لأمنها واستقرارها وسلامة أراضيها، وكذلك حقها في التصدي لأي إعمال عنف، أو فتنة داخلية، أو تمرد على السلطة الشرعية.

3. الآثار القانونية لعدم التزام السودان بالتعاون مع المحكمة الجنائية الدولية

منذ أن أحال مجلس الأمن "الحالة في دارفور" إلى المدعى العام للمحكمة الجنائية الدولية، درج وأصر السودان على رفض التعاون، بل والتعامل مع المحكمة الجنائية الدولية. وأكد، في عديد من التصريحات الرسمية، وعلى رأسها تصريحات الرئيس عمر البشير، عدم الاعتراف بهذه المحكمة، وذلك بزعم أن المحكمة مسيسة، ولا تنشد إقرار العدالة، بل تحقق أهدافاً ومصالح لدول غربية معادية لدولة السودان. إن النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية يميز ـ وإن كان بشكل طفيف ـ بين عدم التعاون مع المحكمة الجنائية الدولية، وكل من الدول الأطراف في النظام الأساسي للمحكمة، والدول غير الأطراف في ذلك النظام، كحالة السودان. وفى الحالة السودانية، ولأن مجلس الأمن هو الذي أحال "الحالة في دارفور" إلى المحكمة الجنائية الدولية، فعند عدم تعاون السودان ـ الدولة غير الطرف ـ مع المحكمة، تستطيع المحكمة أن تخطر مجلس الأمن بعدم تعاون السودان معها. وهنا، يتعامل مجلس الأمن مع هذا الموقف، وفقا لميثاق منظمة الأمم المتحدة. وعند الضرورة، يمكن لمجلس الأمن أن يفرض العقوبات المناسبة ضد السودان، بموجب الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة. وكون السودان دولة غير طرف في نظام المحكمة لا يغير من الأمر شيئاً. وفى كل الحالات الأخرى، يمكن للمحكمة الجنائية الدولية، على الأقل، أن تخطر جمعية الدول الأطراف للمحكمة الجنائية الدولية بعدم تعاون السودان مع المحكمة. بيد أن النظام الأساسي للمحكمة، الذي ينظم هذه المسألة، لا يتضمن إجراءات محددة يمكن أن تتخذها الجمعية في ذلك الصدد. كما لا تستطيع جمعية الدول الأطراف للمحكمة أن تقر بمسؤولية تلك الدول غير الأطراف، التي لا تتعاون مع المحكمة.

وجدير بالذكر أنه في حالة عدم انصياع أي دولة عضو في منظمة الأمم المتحدة، بالتعاون مع المحاكم الجنائية الدولية الخاصة والتي أنشأها مجلس الأمن ـ محكمتي يوغسلافيا ورواندا الدوليتين ـ بوصفها أجهزة ثانوية أو فرعية لمجلس الأمن، فإن المجلس له أن يتصرف ومباشرة باتخاذ إجراءات قسرية ضد هذه الدول، بموجب الفصل السابع من ميثاق منظمة الأمم المتحدة. وعلى النقيض من ذلك، ونظراً لأن المحكمة الجنائية الدولية ليست جهازاً فرعياً لمجلس الأمن، وليست، أيضاً، أحد أجهزة منظمة الأمم المتحدة، فهنا ينتظر مجلس الأمن أن تبلغه رسمياً المحكمة الجنائية الدولية بعدم تعاون دولة غير طرف في النظام الأساسي للمحكمة معها، وذلك حتى يتسنى للمجلس اتخاذ ما يراه مناسباً لإرغام هذه الدولة على التعاون مع المحكمة. وإذا أصدر مجلس الأمن قراراً، بموجب الباب السابع من الميثاق، يلزم سائر الدول أعضاء منظمة الأمم المتحدة، ومن بينها السودان، بالتعاون لتنفيذ أمر لاعتقال ـ إن صدر ـ من المحكمة الجنائية الدولية، ورفض السودان الإذعان لذلك القرار، فسيصبح الرئيس السوداني ـ ولأول مرة لرئيس دولة في سدة الحكم ـ غير قادر على مغادرة دولته خارج حدوده. ولن يستطيع أن يمثل دولته في الساحة الدولية، ولن يستطيع الحضور إلى مقر منظمة الأمم المتحدة، خشية إلقاء القبض عليه، وذلك تنفيذاً لأمر الاعتقال الصادر من غرفة ما قبل المحاكمة بالمحكمة الجنائية الدولية. والأخطر من ذلك كله، كيف يكون التعامل والتفاعل مع دولة السودان، ورئيسها ملاحق قضائياً، أمام المحكمة الجنائية الدولية؟.

4. المساعي والجهود المبذولة لاحتواء أزمة المحكمة الجنائية الدولية

في إطار المساعي والجهود المبذولة لاحتواء الأزمة، بين الحكومة السودانية والمحكمة الجنائية الدولية، دعا دبلوماسيون من الاتحاد الإفريقي وجامعة الدول العربية، في 12 فبراير 2009، مجلس الأمن الدولي إلى تعليق إجراءات توجيه اتهام متوقع من المحكمة الجنائية الدولية للرئيس السوداني "عمر حسن البشير"، على خلفية مزاعم عن تورطه في عمليات إبادة جماعية وجرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية في إقليم دارفور. وقال سفير السودان لدى الأمم المتحدة "عبد المحمود عبد الحليم" في نيويورك إن دبلوماسيين أفارقة وعرباً سيجتمعون مع أعضاء مجلس الأمن، وسينقلون قرار الاتحاد الإفريقي الصادر في قمته بالعاصمة الإثيوبية أديس أبابا (2009)، برغبته استخدام المادة 16 من القانون الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية. وتسمح المادة 16 لمجلس الأمن بتعليق إجراءاتها لمدة تصل إلى عام في المرة الواحدة، قابلة للتمديد.

وكان وزير شؤون إفريقيا وآسيا والأمم المتحدة بالحكومة البريطانية "مارك مالوك براون"، قد استبعد تماماً "حدوث أي شيء قد يؤدي إلى تأجيل بموجب المادة 16". وكانت هولندا قد رحبت، في 12 فبراير 2009، بالإصدار المحتمل لمذكرة اعتقال البشير، وذكر وزير الخارجية الهولندي "ماكسيم فيرهاجن" أنه حينما توجه اتهامات ضد رئيس دولة لا يزال في السلطة ويقدم للمحاكمة، فإن هذا سيكون تحذيراً واضحاً لجميع دول العالم بأنه لا أحد فوق القانون". وعلى الجانب السوداني، أشار نافع علي نافع، رئيس الوفد الحكومي لمحادثات الدوحة بشأن دارفور، إلى أن أي قرار تصدره المحكمة الجنائية بحق رئيس البلاد لا يعني السودان، واتهم هذه المحكمة بإعادة الاستعمار إلى إفريقيا. وفي الخرطوم أشارت وزارة الخارجية السودانية إنها لم تتلق أي إخطار من المحكمة، التي لم تعلن بعد قرارا أو تعط تفاصيل عن الاتهامات، التي قد يواجهها الرئيس السوداني. وقد حذرت الصين والجامعة العربية والاتحاد الإفريقي من أن إصدار لائحة اتهام بحق البشير، قد يؤدي إلى زعزعة استقرار المنطقة، ويزيد من تفاقم الصراع في دارفور، ويهدد اتفاق السلام الهش بين شمال وجنوب السودان، الذي يتمتع بحكم شبه ذاتي.

ويلاحظ، بصفة عامة، فيما يتعلق بالأزمة في دارفور، أنها تدور في مجموعة من الدوائر التي تتنازعها وتؤثر عليها، وهي:

أ. أنها واحدة من الأزمات الداخلية، التي تعاني منها جل دول العالم، بوصفها أزمة وطنية، تدخل في نطاق علاقة الجماعات والأقاليم، التي تتكون منها الدولة بالحكومة المركزية في إطار مجتمع تعددي، ومن ثم، كيفية التعامل معه.

ب. أن فشل السودان، كغيره من الدول حديثة الاستقلال، في بناء الدولة الوطنية، وكذلك فشل النخب الحاكمة في إيجاد أساس للمواطنة الصالحة، وتحقيق توزيع عادل ومتساو للموارد والخدمات، هو من الأمور الشائعة في العديد من دول العالم، بصفة عامة، وفي دول العالم الثالث، ومن بينها الدول الإفريقية، بصفة خاصة، ومن ثم ليس السودان استثناءً عن تلك الدول، وربما يكون الاستثناء يتمثل في إصرار دولٍ فاعلة في المجتمع الدولي على عدها كذلك، في إطار الحسابات للأهداف والمصالح الدولية.

ج. الصراع في دارفور هو نمط من الصراعات التي ترتبط أساسا بشح الموارد، وليس صراعاً عرقياً بين عرب أو أفارقة، كما يتم الترويج له (ذرائعياً)، من جانب دول معينة في المجتمع الدولي.

د. السودان نموذج واضح للتدخل الدولي، حيث توجد مصالح غربية لفك وتركيب مناطق إستراتيجية كاملة، وهي مصالح معلنة، إضافة إلى التداخل الإقليمي لأزمة دارفور مع دول أخرى، مثل تشاد.

هـ. ضرورة ملاحظة التغير في بنية النظام الدولي، والدور الذي تقوم به ما يسمى بالمنظمات الإنسانية والحقوقية الدولية.

من جانب آخر، فإن أزمة دارفور وما نجم عنها من تداعيات، ربما يكون العائق الأساسي أمام إيجاد تسوية مناسبة لها هو غياب الإرادة السياسية، لدى بعض الحركات والفصائل المتمردة في دارفور، فضلاً عن تعددها (يبلغ الآن عددها 32 فصيلاً)، وتنوع القوى الخارجية والإقليمية التي تدعمها، من ناحية أخرى، بمعنى أن أزمة دارفور غير مركزة في جهة واحدة، بل تتنازعها ثلاث عواصم غربية، هي: باريس صاحبة المصالح في القرن الإفريقي والموجودة عسكرياً في المنطقة، والتي تدعم "عبد الواحد نور" زعيم حركة تحرير السودان، ولندن التي هي مأوى لبعض قادة التمرد، الذين رفضوا الذهاب إلى محادثات السلام، وواشنطن التي لها مصالحها الإستراتيجية في إفريقيا عامة، والسودان خاصة، ورغبتها في الحد من الوجود الصيني المتنامي في القارة.

واقتناعاً بأن أمر أزمة دارفور لا يتعلق بالسياسيين في المركز وحدهم، بل يذهب إلى ضرورة مراجعة أداء الحركات المتمردة عليه، فالمواقف التي يتخذها قادة الحركات، بحجة أن الحكومة لم تفعل ما يجب أن تفعله، دون أن يتم الاتفاق على حدود ما الذي يجب فعله من الحكومة والإجماع عليه من قبل المتمردين، فحجة تمثل دعوة إلى الدخول في مزايدات لا طائل منها. وهي تركز على إدانة السياسة الحكومية في الخرطوم، ولا تقيم بأي معيار موضوعي سلوكها الخاص، ما يجعل منها دعوة صريحة إلى السودانيين جميعاً، من أجل تفادي اعتماد سياسة عاقلة في مواجهة الأزمة، أي أزمة.

كما يلاحظ، بصفة خاصة، أن الإرادة الوطنية لدى الأطراف السودانية تعاني من الضعف في التناول والتعامل الداخلي مع أزمات السودان، وهي تركن، غالباً، إلى الفاعل الخارجي للقيام بهذا الدور. وعلى سبيل المثال، فإن الحركة الشعبية لتحرير السودان، وعلى الرغم من كونها جزءاً من الكيان ومن الحكومة السودانية، إلا أن تأثيراتها كانت بالغة في دعم الصراع الذي تتبناه حركات التمرد؛ بينما كانت خافتة في دعم جهود إقرار السلام والتوصل إلى تسوية لتلك الأزمة، وربما يمكن أن يكون للحركة الشعبية جهودها في التأثير الإيجابي لأنها تعتمد في وساطتها على عدة مزايا لا تتوافر لدى غيرها من الأطراف المعنية بالأزمة. فهي جزء من الحكومة وينبغي أن تتبنى مواقف الحكومة نفسها، وتحظى كذلك بثقة الفصائل المتمردة في إقليم دارفور، نظرا لوجود علاقات سابقة بين الطرفين قبل انضمام الحركة الشعبية إلى الحكومة المركزية، وعلاوة على ذلك فالحركة لديها خبرة سابقة في التفاوض مع الحكومة السودانية، ويمكنها توصيل هذه الخبرة إلى هذه الفصائل، ومحاولة الجمع بينهم لأن التشتت الذي تعاني منه، يضر بقضيتهم أكثر مما يفيدها.



[1] عقد اجتماع اللجنة الوزارية العربية الإفريقية حول السلام في دارفور بدعوة من دولة قطر، وشارك فيه السيد "جان بينج" رئيس مفوضية الاتحاد الإفريقي، والسيد "أحمد بن حلي" نائب الأمين العام لجامعة الدول العربية. كما شارك في الاجتماع وزراء خارجية وممثلي كل من: الجزائر والسعودية وسورية وليبيا ومصر والمغرب وبوركينا فاسو وتشاد وتنزانيا وجنوب إفريقيا والسنغال والكونغو برازافيل ونيجيريا، إلى جانب السيد "أحمد بن عبدالله آل محمود"، وزير الدولة للشؤون الخارجية بدولة قطر، والسيد "رمضان العمامرة"، مفوض السلم والأمن الإفريقي، والسيد "جبريل باسولي"، الوسيط المشترك للأمم المتحدة والاتحاد الإفريقي.

[2] تأسست المحكمة الجنائية الدولية في العام 2002، وهي أول هيئة قضائية دائمة ذات اختصاص دولي في محاكمة الأفراد المتهمين بجرائم الإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب، (باستثناء محكمة العدل الدولية التي لها صفة دائمة ولكنها تختلف عن المحكمة الجنائية إذ إنها محكمة بين الدول ولا تختص بمحاكمة الإفراد)، وحسب نظام المحكمة الجنائية (نظام روما) فإن ولايتها تكميلية لولاية القضاء الوطني، وليست ولاية أصلية، ولهذا فإنها لا تكتسب الولاية القضائية في محاكمة أي متهم إلا إذا تخلت المحاكم الوطنية في الدول الأعضاء الموقعة على نظام روما عن ولايتها، أو كانت غير قادرة على التحقيق أو الحكم في تلك القضايا، أو في حالة انهيار نظام الحكم في الدول الأعضاء نفسها؛ ولهذا فان الولاية الأصلية تظل ثابتة للقضاء الوطني. كما تقتصر صلاحية المحكمة على النظر في الجرائم المرتكبة بعد أول يوليه 2002، وهو تاريخ نفاذ اتفاق روما للمحكمة الجنائية الدولية.