إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / موضوعات سياسية / الحرب الأهلية اللبنانية






مواقع المخيمات الفلسطينية
مواقع المخيمات الفلسطينية
لبنان - التوزيع الطائفي
الجمهورية اللبنانية
تعداد الفلسطينيين بلبنان
جنوب لبنان



المبحث الثاني نظام القائمقاميتَين، والحرب الأهلية الثانية (1842 ـ 1845)

المبحث الثاني

نظام القائمقاميتَين، والحرب الأهلية الثانية (1842 ـ 1845)

        منذ انسحاب القوات المصرية من الشام، وما عقب ذلك من حرب أهلية، والدول الأوروبية الكبرى دائبة في إيجاد نظام حُكم للبنان، يستعيد الحكم العثماني المباشر، ويحقق رغبتَي الطرفين المقتتلَين، الدروز والموارنة، ويتماشى مع أهداف الدول الكبرى، في المنطقة. وهكذا، وجدت الدولة العثمانية نفسها أمام تحالف أوروبي، يعمل على فرض حل عليها، وإنْ اختلفت الدول الأوروبية في كيفية هذا الحل، مما أدى إلى ظهور العديد من المشروعات والمشروعات المضادّة، ومن أبرزها ما قدّمه العثمانيون والفرنسيون والنمساويون. أمّا المسؤولون الإنجليز، فكانوا قد كوَّنوا فكرة معيّنة عن نظام الحُكم، الملائم للبنان وللمصالح البريطانية. ولكنهم سعوا لأن يظهر هذا النظام، وكأنه من وضْع "الجماعة الأوروبية". وبذلك، تكون القضية اللبنانية، قد أخذت شكلاً دولياً، رسمياً.

       وضعت السلطات العثمانية، أمام سفراء الدول الكبرى، مشروعاً، لا يخرج عن الأساليب التقليدية، التي كانت تلجأ إليها الآستانة. إذ جعل لبنان، كلية، تحت الحُكم العثماني المباشر، وأصبح، بموجبه، تابعاً لوالي صيدا. ولكن السفراء الأجانب، رفضوا المشروع العثماني، جملة وتفصيلاً؛ إذ إنهم كانوا ضد عودة الحُكم العثماني المباشر إلى لبنان؛ وربما كان هذا الاتجاه، هو الشيء الوحيد، الذي لم يختلف فيه سفراء الدول الكبرى.

        وقدّم الفرنسيون مشروعاً، يُعَدّ، هو الآخر، رجوعاً بأوضاع لبنان إلى ما كانت عليه، قبْل وقوع أحداث 1841. إذ تبنّى هذا المشروع وجهة نظر البطريرك الماروني، إلى حدّ كبير، خاصة رغبته في أن يحكم الجبل كله أمير مسيحي، على نحو ما كان عليه الحال، أيام الأمير الشهابي، بشير الثاني الكبير. غير أن الحكومة البريطانية، رفضت المشروع الفرنسي؛ لأنها كانت ضد عودة الشهابي الكبير، من جهة، ولأن الدروز، أصدقاء بريطانيا، لا يقبَلون أن يتولى عليهم حاكم مسيحي، فضلاً عن معارضتهم الشديدة لعودة الشهابيين إلى الحكم.

        وكان الأمير ميترينخ Prince Klemens Wenzel Nepomuk Lother Von Metternich، وزير خارجية ومستشار النمسا، صاحب مشروع مبنيّ على النظرة الواقعية إلى لبنان، قوامه الاعتراف بالحقيقة الطائفية في هذا البلد، إذا أريد التوصل إلى نظام حُكم، يكون مقبولاً من الطرفين المتنازعَين، الموارنة والدروز، في إطار من الاعتراف بالسيادة العثمانية. فدعا المستشار النمساوي إلى تقسيم الجبل، بإنشاء وحدتَين إداريتَين، قائمقاميتَين. إحداهما درزية، في نصفه الجنوبي، ويحكمها حاكم درزي. والثانية مارونية، تحت حاكم ماروني، في النصف الشمالي من الجبل. وقد حصل هذا المشروع على موافقة الدول الكبرى (15 سبتمبر 1842). وعُدّ ذلك نصراً كبيراً للدبلوماسية الأوروبية على الباب العالي.

        كان المشروع النمساوي، في الأساس، مشروعاً بريطانياً؛ إذ عكس وجهة النظر الإنجليزية، على النحو التالي:

1. استبعد المشروع عودة آل شهاب إلى الحُكم. فهو يغاير هوى الفرنسيين والإكليروس الماروني. بينما يماشي وجهة النظر الدرزية، التي يعمل الإنجليز على أخذها في الحسبان.

2. أعطى المشروع الموارنة كياناً قائماً بذاته، في حين أعطى الدروز، كذلك، كياناً قائماً بذاته، فجنّبهم الوقوع تحت حكم أمير مسيحي.

3. اتَّهم جيزو، رئيس الوزارة الفرنسية، الحكومة النمساوية، بأنها أخذت بوجهة النظر الإنجليزية، لتكسب تأييد بريطانيا لها، على السيادة على روما وإيطاليا.

4. استبعد المشروع دور روسيا من المشكلة اللبنانية. لتزداد حسرتها الناجمة عن خروجها من الأزمة العثمانية ـ المصرية (1831 ـ 1840)، خاسرة، مع أنها هي التي بادرت إلى مساعدة الدولة العثمانية، عام 1833؛ إذ إن بريطانيا، قضت على هذه المبادرة، وأغلقت المضايق العثمانية في وجْه السفن الحربية، مما حال دون وصول الأسطول الروسي إلى المياه الدافئة، البحر الأبيض المتوسط. وذلك من خلال فرضها على الآستانة اتفاقية المضايق، في 13 يوليه 1841. فلما سعت روسيا إلى دور في حل المشكلة اللبنانية، بادعائها المدافعة عن طائفة الروم الأرثوذكس، لم يكن مسعاها فاعلاً. واضطرت إلى قبول مشروع القائمقاميتَين للجبل، من دون ذكر للروم الأرثوذكس. وهذا ما كانت تريده الدول الأوروبية، ولا سيما بريطانيا وفرنسا والنمسا، على أساس أن طائفة الروم الأرثوذكس، هي هدف البعثات التبشيرية، الكاثوليكية والبروتستانتية، على حدّ سواء.

        قبلت السلطات العثمانية، على مضض، ما يفرض عليها. ولكنها حاولت، حفاظاً على ماء وجهها، أن تظهر وكأنها صاحبة المشروع، بل منفِّذته.

1. تطبيق نظام القائمقاميتَين، والمشاكل الناجمة عنه

عُهِد بتطبيق نظام القائمقاميتَين إلى أسعد باشا، والي صيدا الجديد. وكان عليه أن يعالج المسائل الرئيسية التالية:

أ. حدود القائمقاميتَين.

ب. اختيار قائمقام درزي، وآخر ماروني.

ج. الجهة التي يتبعها الموارنة في القائمقامية الدرزية، والدروز في القائمقامية النصرانية.

وكان حل المسألة الأولى يسيراً، إذ كان من المتفق عليه، أن يكون طريق بيروت ـ دمشق، حدّاً فاصلاً بين القائمقاميتَين.

أما المسألة الثانية، فلم تخلُ من الصعوبات. إذ كان اختيار قائمقام درزي أشد حرجاً من اختيار القائمقام الماروني، لانقسام الدروز إلى جنبلاطيين ويزبكيين. ورأى أسعد باشا ضرورة الحفاظ على وحدة الجبهة الدرزية، على أساس أنها الأقرب إلى العثمانيين، وأنها قبضتهم في ضرب الموارنة، المسؤولين، من وجهة نظر الآستانة، عن تدويل المشكلة اللبنانية، وفتْح أبواب البلاد أمام التدخل الأجنبي، الذي يمكِن أن يضر بالعالم الإسلامي.

وكان أكثر المرشحين ترجيحاً للمنصب، هو سعيد بك جنبلاط؛ إذ إن القنصل البريطاني، روز، يميل إليه. فضلاً عن أن أسعد باشا يحبّذه، إلا أنه كان يخشى أمرَين، إذا تولى سعيد بك منصب القائمقام:

أ. أن ينفصل اليزبكيون، ويصبحوا أداة في يد خصوم العثمانيين.

ب. أن يزداد تأثير القنصل البريطاني في مرشحه، الزعيم الجنبلاطي، وفي توجيه مقدرات القائمقامية الدرزية. وكانت السلطات العثمانية، تجهد في التقليل من التدخل الأجنبي في الشؤون الداخلية لولاياتها.

ولهذا، استبعد أسعد باشا سعيد بك، مفضّلاً أحمد أرسلان، بعد تزكية زعماء الدروز له، مقابل حفاظه على امتيازاتهم، بمقتضى اتفاق بينهما (ديسمبر 1842).

وسرعان ما أدى الاختلاف في صلاحيات القائمقام، إلى تصادم والي صيدا والقائمقام الجديد. وما لبث أسعد باشا أن قبض على أحمد أرسلان. ولم يطلقه، إلاّ بعد تدخّل قناصل الدول الأوروبية الكبرى.

أما بالنسبة إلى منصب قائمقام الموارنة، فقد اخْتِير له حيدر أبي اللمع، الذي طالما سعى عمر النمساوي إلى تعيينه نائباً له. وواجه القائمقام الجديد معارضة قوية من الإقطاعيين الموارنة، الذين ادّعوا أنه لا يمتلك الصفات الإدارية، التي يتطلبها هذا المنصب. بيد أن السبب الرئيسي لمعارضة الإقطاعيين، أدروزاً كانوا أم موارنة، أنهم يرون في منصب القائمقام، وهم مُحقون، تهديداً لسلطاتهم وامتيازاتهم. وعلى أي حال، استطاعت جهود أسعد باشا، والقنصل الفرنسي، بوريه، أن تقنع الإقطاعيين الموارنة بتأييد القائمقام، من دون أن تحل المشكلة بينه وبينهم حلاً نهائياً.

وأخيراً، شرع أسعد باشا يعالج المسألة الشائكة، المتعلقة بتحديد تبعية القُرى والمدن المختلطة. ويمكِن تقسيم هذه المشكلة إلى قسمين: الأول، يتعلق بـ "دير القمر" و"بلاد جبيل". والثاني، وهو الأشد خطراً، يتعلق بالمناطق المختلطة، المتناثرة في القائمقاميتَين.

كانت دير القمر، في ذلك الوقت، تضم خمسة آلاف نسمة، منهم أربعة آلاف ماروني والألف الباقي من الدروز. إلا أنها كانت معقلاً تاريخياً للدروز، وعاصمة لهم، وتقع في قلب منطقتهم. ولذلك، رأوا، يؤيدهم الكولونيل روز، أن إخراج هذه المدينة من دائرة صلاحيات قائمقام الدروز، يُعَدّ تحدياً صارخاً للتقاليد، وللحقوق الشرعية الدرزية.

أما وجهة نظر الموارنة في هذه القضية، فتتمثل في رأي البطريرك الماروني، يؤيده القنصل الفرنسي، أنه لا بدّ من احترام الأغلبية العددية المارونية في المدينة؛ إذ إن الأمر الواقع أقوى من أي حقوق تاريخية. غير أنه إذا كان الموارنة قد أضيروا، في غير مكان، على يد الدروز، خلال الحرب الأهلية الأولى (1841)، فإن موارنة دير القمر، كانوا الأكثر ضِراراً، وإنه يجب حمايتهم من أي تعديات، قد يتعرضون لها، وهم يعيشون في محيط درزي.

وتوالت المشروعات، الفرنسية والإنجليزية، لحل هذه القضية. حتى أمكن التوصل، في سبتمبر 1844، إلى حل وسط، على يد أسعد باشا، والي صيدا، وخليل باشا، قائد الأسطول العثماني، الراسي أمام سواحل لبنان، والمكلف بتسوية مشكلته. ويقضي هذا الحل بما يلي:

أ. تمنح دير القمر حكماً ذاتياً، يتولاه وكيل درزي وآخر ماروني.

ب. تختار كل طائفة وكيلها.

ج. يتبع الوكيل الدرزي القائمقام الدرزي، ويتبع نظيره الماروني القائمقام المسيحي.

أما بالنسبة إلى بلاد جبيل، ذات الأغلبية المسيحية، ومن أهم توابعها، فضلاً عن ميناء جبيل: البترون والفتوح والكورة ـ فقد رأى أسعد باشا، وهو المعروف بتفهمه لمطالب الموارنة، وميله إلى حل مشاكلهم، أنها غير داخلة ضمن القائمقامية المسيحية، مستنداً في ذلك إلى أن أمراء الشهابيين، كانوا يحصلون عليها بالالتزام من والي صيدا. ومن ثَمّ، يحق للوالي أن يستعيد سيطرته المباشرة عليها. فأثار أسلوب والي صيدا، سخط الموارنة؛ إذ إنه سيفقدهم كتلة بشرية، لها وزنها، ومنطقة اقتصادية مهمة، ومنفذاً بحرياً، ويظهرهم بمظهر المستسلمين للسلطات العثمانية. وتدخّل القناصل في المشكلة، وتشاوروا فيها، حتى توصلوا إلى حل، يميل إلى مصلحة المورانة. وهو منح القائمقام المسيحي بلاد جبيل، على نحو ما كان عليه الحال في عهد الأميرَين الشهابيَّين، يوسف وبشير الثاني الكبير.

كذلك، أُدخل بعض المناطق الساحلية، ذات الأغلبية المارونية، ضمن قائمقامية الموارنة، بإيعاز من الكولونيل الإنجليزي روز، حرصاً على أملاك صديقه، الأمير بشير الثالث، الشاسعة، والواقعة تحت حُكم الدروز، الذين سيدمرونها، لا محالة.

إلا أن تنفيذ تلك الاتفاقات، كان يتطلب حلاً شاملاً لقضية المناطق المختلطة. فضلاً عن التوصل إلى تفاهم حول التعويضات الباهظة، التي يطالب الموارنة بأن يدفعها إليهم الدروز، لِما أقدموا عليه من تعديات عليهم، خلال الحرب الأهلية الأولى.

وحول هذه المشكلات، دار جدال طويل، معقد، بين السلك الدبلوماسي الأوروبي والباب العالي. ونشط الموارنة لدى الحكومات الأوروبية، وخاصة البريطانية والفرنسية. وقدِّمت مشروعات عديدة للتوصل إلى حل، يتقبّله المعنيون.

2. محاولة لحل مشكلة المناطق المختلطة

في محاولة لوضع أساس مقبول لحل مشكلة المناطق المختلطة، توصل الباب العالي، في 2 سبتمبر 1844، إلى الصيغة التالية:

أ. أن تتبع المناطق المختلطة، في القائمقامية الدرزية، القائمقام الدرزي.

ب. أن تتبع المناطق المختلطة، في القائمقامية المسيحية، القائمقام المسيحي.

ج. أن يكون لكل قرية مسيحية، في قائمقامية الدروز، وكيل عنها.

د. أن يكون لكل قرية درزية، في القائمقامية المسيحية، وكيل عنها.

هـ. أن يدفع الدروز تعويضات إلى المسيحيين، عن حوادث 1841.

رحّب القنصل الإنجليزي بتلك التسوية. وأيدها، إلى حدّ ما، الدروز. بينما رفضها، بشدة متفاوتة، قناصل فرنسا وروسيا والنمسا. وعارضها الموارنة، بشدة، بلغت حدّ الدعوة إلى اللجوء إلى القوة، بل إن منهم من رأى ألاّ خلاص للموارنة في بلاد الدروز، إلا بالهجرة إلى بيروت وكسروان.

ووسط هذا التوتر الشديد، أخذ القنصل الفرنسي، يوجين بوجاد، موقفاً إلى جانب المعارضة المارونية، إذ قدَّم مشروعاً، يتعارض مع تسوية سبتمبر 1844، واستهدف استبعاد أي سيطرة درزية على الموارنة، في القائمقامية الدرزية. كما استهدف عودة الشهابيين إلى حُكم "كل لبنان". وكان بوجاد يرى، أن الباب العالي، الذي وافق على أن تكون مصر وراثية، في أُسرة محمد علي باشا، يمكنه أن يوافق على توارث الشهابيين حُكم لبنان، خاصة أن جرم محمد علي، في نظر بوجاد، يفوق كثيراً جرم بشير الشهابي الثاني الكبير، في حق السلطان.

وسعت الدبلوماسية الفرنسية إلى موافقة الحكومة البريطانية على مشروع بوجاد، فضلاً عن موافقة أسعد باشا وخليل باشا عليه. ولكن، تضافرت عدة عوامل على فشل المشروع الفرنسي:

أ. كان الباب العالي، وهو في صدد إحكام قبضته على ولاياته، يعارض عودة الشهابيين إلى الحُكم، على أساس أن ذلك يشبه منح لبنان حكماً ذاتياً، لن يلبث أن يؤدي إلى الاستقلال.

ب. كانت الحكومة البريطانية غير موافقة على عودة الشهابيين، الذين سيصبحون، من وجهة نظرها، أدوات طيّعة في يد القنصل الفرنسي. إلا أنها كانت توافق على إعادة الوحدة إلى الجبل، على أن تكون تحت حاكم عثماني. وحاول الفرنسيون إقناعها بقيمة التمسك بوحدة الجبل. وعملوا على إرضائها، باستبعاد عودة الأمير بشير الشهابي الثاني الكبير، مرشحين للإمارة ابنه، الأمير أميناً. ولكن الشهابي المرشح، الذي كان قد اعتنق المذهب الكاثوليكي، ما لبث أن ارتدّ إلى الإسلام؛ وما كان الموارنة ليقبلوا أميراً مسلماً على كل لبنان.

ج. كان الأمير حيدر أبي اللمع، قائمقام الموارنة، ضد عودة الشهابيين إلى الحكم. ولم يُفلح القنصل الفرنسي في إغرائه بالمناصب، ليثنيه عن موقفه.

د. كان بعض الأُسَر المسيحية الإقطاعية القوية، تعارض عودة الأمير بشير الشهابي الثاني الكبير إلى الحُكم، وعلى رأسها آل الخازن، وآل حبيش.

هـ. كان الحزب الدرزي اليزبكي، يؤيد عودة الأُسْرة الشهابية إلى الحكم، ولكنه كان دون نظيره الجنبـلاطي قـوة، المعارض، بشدة، لهذه العودة، والمتمسك بتنفيذ تسويـة 2 سبتمبر 1844. وكان القنصل الإنجليزي، الكولونيل روز، يشد أَزْر الجنبلاطيين في موقفهم.

و. تشبث كلٌّ من الدروز والموارنة بموقفه. ورفض الموارنة أن يخضعوا للقائمقام الدرزي. وتدفقت الأسلحة والأموال إلى الموارنة، وصدرت إليهم التعليمات المشددة بوقف التعامل مع الدروز، وإلاّ تعرّضوا للعقاب.

وهكذا، وصلت الأمور إلى طريق مسدود. وانبرى الطرفان، الدرزي والماروني، يستعدان لحل الخلافات بالقوة.

ولم يكن أي من الجبهتين كتلة واحدة، متماسكة. فقد كان ثمة خلافات داخل كلٍّ منهما. ويمكِن أن نحدد ذلك التفكك، على النحو التالي:

أ.  صراع دموي بين أُسْرتَي "الدحداح" و"حبيش"، المارونيتَين.

ب.  توزُّع أُسْرة آل الخازن بين أكثر من تكتل داخلي.

ج.  نزاع عميق، بين حيدر أبي اللمع والإقطاعيين الدروز.

د.  اقتتال الزعامات الدرزية، بين الحين والآخر.

هـ . تحاسد الجنبلاطيين واليزبكيين.

وعلى الرغم من ذلك، كان اندلاع الصراع المسلح، بين الموارنة والدروز، يخفف حدّة الخلافات الداخلية، لتعلو صيحات التضامن والتكاتف، ضد الخطر الأكبر، ولا سيما لدى الدروز.

3. تصادم الموارنة والدروز، ودخول بقية الطوائف في الصراع

عقد زعماء الدروز، في 2 فبراير 1845، مؤتمراً موسعاً، في "المختارة"، خططوا فيه للحرب، حضره وكلاء عن اليزبكيين. بينما استعدت المدن والقرى المارونية لجولة جديدة، واتخذ الموارنة "عبيه" قاعدة عسكرية لهم.

وفي هذا الوقت الحرِج، استدعت السلطات العثمانية أسعد باشا من ولاية صيدا، ربما بإيعاز من الإنجليز، الذين كانوا يتهمونه بالميل إلى جانب الموارنة. بينما ذهب خليل باشا، في رحلة تفتيشية، إلى طرابلس. وبذلك، ابتعد هذان الرجلان، العارفان ببواطن الأمور، عن المنطقة، مما أحدث فراغاً، في هذا الظرف الدقيق، الذي كان يتطلب تدخلاً عسكرياً، لمنع التصادم المنتظر. فلقد كانا يعتقدان، أنه من الضروري استخدام القوة، لفرض الحل الملائم. ولكن السلطات العثمانية، والحكومات الأوروبية، رفضت استخدام القوة لفرض حل ما، مما أعطى الفرص الواسعة، لأن يلجأ الطرفان المتنازعان، الموارنة والدروز، إلى السلاح، في غياب قوة ردع ملائمة.

بينما المصادر، البريطانية والعثمانية، تتجه إلى تحميل الموارنة مسؤولية البدء بالحرب، وأنهم أعلنوها حرباً صليبية، تهدف، في ما تهدف إليه، إلى إعادة بشير الشهابي الثاني الكبير إلى الحُكم، كانت الأمور قد وصلت إلى حدّ، لا يمكن السيطرة فيه على أي من الطرفين، فالحرب واقعة، لا محالة. إذ هاجمت القوات المارونية، في أبريل 1845، وكان جزء منها بقيادة الإكليروس الماروني، بعض القُرى الدرزية، وأحرقتها. فردّت القوات الدرزية، هي الأخرى، بمهاجمة القُرى والمدن المارونية.

وما كاد القتال يبدأ، حتى دخل الروم الأرثوذكس المعركة، إلى جانب الدروز. وشجعهم على ذلك القنصل الروسي، بازيل. فقد كانوا يعتقدون، أن الموارنة، لو كسبوا الحرب، وتسلطوا عليهم، فسيعملون على إرغامهم، بكافة الوسائل، على الدخول في مذهبهم أو في الكاثوليكية. وكذلك، انضم إلى الدروز جماعات، من السُّنة والشيعة.

ولما اشتد القتال، بدا واضحاً، أن كفة الدروز هي الراجحة. وتوالت هزائم الموارنة، في "عبيه" و"دير القمر" و"جزين" و"زحلة" و"حاصبيا". فبادروا إلى استنجاد القناصل. ولكن وجيهي باشا، والي صيدا، رفض التدخل في الصراع، متهماً الموارنة بأنهم هم المسؤولون عن نشوب القتال وانتشاره، في يوليه 1845. وإذا كانت السلطات العثمانية راضية عما أصاب هذه المنطقة من فوضى، ليثبت للدول الأوروبية الكبرى، أن هؤلاء الناس، لا يمكنهم أن يحكموا أنفسهم بأنفسهم، وأن الحكم العثماني المباشر، هو الملائم لهم، إلاّ أنه كان لا بدّ لها أن تتدخل، لتوقف المذابح الطائفية، أولاً، ولتفرض سيطرتها الفعلية المباشرة، ثانياً.

ولهذا بعث الباب العالي شكيب أفندي، أحد كبار المسؤولين العثمانيين، لتنفيذ سياسة تؤدي إلى الاستقرار، وأن يكون حاسماً في ما يتخذه من إجراءات، مع مراعاة ما توصل إليه الأطراف المعنيـون مـن حلول، خاصـة ما يتعلق بالقائمقاميتَين. وبـذلك، يتنكر شكيب أفندي لتسويـة 2 سبتمبر 1844.

وقد أعلن المبعوث العثماني، في يوليه 1845، خطته، على النحو التالي:

أ. امتناع القناصل عن التدخل في شؤون البلاد، على أساس أنهم يتحملون جانباً رئيسياً من مسؤولية الاضطرابات الدموية، والعقبات العديدة التي وضعت في طريق الوصول إلى تسوية ما.

ب.  الانصراف عن تسوية 2 سبتمبر 1844.

ج.  سيطرة القوات العثمانية على الجبل، وتجريدها سكانه من الأسلحة.

د.  دفع جزء من التعويضات إلى الموارنة.

هـ. إعادة تنظيم الإدارة والأمور القضائية في الجبل وتطويرها.

ومع أن الدروز والموارنة والقنصل الفرنسي، قابلوا مجيء شكيب أفندي، الذي تدعمه قطع بحرية حربية عثمانية، بحذر شديد، إلاّ أنه مضى في مهمته، فألقى القبض على القائمقامَين، الدرزي والماروني، ووزع التعويضات على بعض المؤسسات الكاثوليكية، ثم قدَّم مشروعه لإدارة الجبل، ذلك المشروع الذي نسب إليه.

ويتضمن مشروع شكيب أفندي القواعد الرئيسية التالية :

أ. أن يستمر نظام القائمقاميتَين.

ب. أن يكون لكل قائمقامية مجلس، على شاكلة المجالس الموجودة في سائر أنحاء الدولة العثمانية، لمعاونة القائمقام.

ج. أن يضم مجلس القائمقامية:

(1) وكيل القائمقام.

(2) قاضياً مسلماً سُنِّياً.

(3) قاضياً درزياً.

(4) قاضياً مارونياً.

(5) قاضياً أرثوذكسياً.

(6) قاضياً كاثوليكياً.

(7) مستشاراً مسلماً سُنِّياً.

(8) مستشاراً درزياً.

(9) مستشاراً مارونياً.       

(10) مستشاراً أرثوذكسياً.

(11) مستشاراً كاثوليكياً.

(12) مستشاراً شيعياً.

وقد تحددت مسؤولية كل مجلس، بتوزيع الضرائب المفروضة على البلاد، والنظر في شكاوى الأهالي ودعاواهم. وقد وضعت ترتيبات محددة، للنظر في هذه القضايا.

ويعكس نظام شكيب أفندي الوقائع التالية:

أ. أنه خلق إدارة ذاتية، في قسمَي الجبل، وإنْ أبقى للسلطات العليا العثمانية اليد العليا فيهما.

ب. أنه محاولة لعبور الأزمة الطائفية، من طريق مجلس مختلط، يضم عناصر من مختلف الطوائف، فرض عليها أن تعمل متعاونة فيما بينها.

ج. أنه نظام يرسّخ الطائفية، على الرغم من محاولته التخفيف من حدّة الأزمة الطائفية.

د. أنه لم يحل مشكلة المناطق المختلطة حلاً جذرياً.

هـ. أن هذا النوع من الإدارة كان ضربة قاسية للنظام الإقطاعي، ونفوذ الإقطاعيين.

ومهما كانت عيوب نظام شكيب أفندي، فإنه استطاع أن يعطي للجبل فرصة واسعة من الهدوء، ونوعاً من الاستقرار المؤقت؛ إذ إن كافة الأطراف، كانت تنظر إلى هذا النظام بعين الريبة والشك. وما تقبّلها له إلاّ لإرهاقها ونفاد طاقاتها.

كذلك، ساعدت الظروف الدولية على استقرار نظام شكيب أفندي، فترة طويلة. فبعد مرور عامَين على تطبيقه، شهدت أوروبا سلسلة ثورات (1848)، في فرنسا وألمانيا وإيطاليا والنمسا والمجر وبولندا. ولم تلبث حرب القرم أن وقعت (28 مارس 1854 ـ 1 فبراير 1856)، تلك الحرب التي دخلتها فرنسا وإنجلترا إلى جانب الدولة العثمانية، ضد روسيا، فكان طبيعياً أن تخف حدّة التدخل الأوروبي في شؤون الدولة العثمانية، على الأقل ريثما تنتهي تلك الحرب؛ إذ كان من مصلحة بريطانيا وفرنسا، أن تتهيأ للدولة العثمانية، خلال تلك الحرب، أوسع الفرص لتجميع قواها، ضد روسيا، العدو المشترك. فهدأ نشاط القناصل الإنجليز والفرنسيين وسكنت، إلى حدّ ما، التحريضات الصليبية، التي كان يتبناها العديد من الأجانب. ومن ناحية أخرى، كان الدروز، والمسلمون بصفة عامة، قد رأوا أن الحرب الروسية ـ العثمانية، تتطلب منهم التكاتف مع الدولة العثمانية.

ولكن، بينما كانت قائمقامية الدروز أكثر هدوءاً، خلال حرب القرم وفي أعقابها، كانت الأمور تتطور، داخل القائمقامية المارونية، تطوراً جديداً، أدى إلى ما عُرف بثورة الفلاحين ضد الإقطاعيين (1858)، تلك الثورة التي ستؤدي إلى "حوادث الستين" أو مذابح الستين، بين المسلمين والمسيحيين.